الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 17th October,2005 العدد : 127

الأثنين 14 ,رمضان 1426

مناسك النظر
نايف فلاح
مَنْ كان بصدد (الموضوعية) بوصفها مصطلحاً، ففي وسعه أن يتحدث عليها ما وسعه التحدث، فليس أفسح من هذا المصطلح أرضاً يتمطى بها من شاء على ما شاء، إذ طريق القول فيه طريق طويلة وملتوية، يتيسر عبرها عقد النسبة والمشاكلة مع مختلف المطارح والبحوث، طالما أنها - أي الموضوعية - مصطلح مشوب بشائبة الذات، ومتردد بمدى فعلها فيه.
ولعل مقالة أهل المنطق في الألفاظ التي يعروها التشاكك تمس في مبناها معنى التردد الذي في (الموضوعية) عندما يخبرون - مثلاً - عن اللون الأبيض بأنه في الورقة أقوى منه في القماش.. وتأسياً بهذا البناء، فإن (الموضوعية) من حيث الجدارة هي في موقع أقوى منها في موقع آخر، ليكون من غير الممكن إلقاء موضوع من دون فعل الذات فيه؛ فالذات غالباً ما تسبق الموضوع، والموضوع هو دائماً تجل للذات.
المسألة إذن مسألة نسب وقوة تداخل، وإن كنت من جهتي أرى أن المسألة مشكلة أخالها أعوص وأشد تعقيداً من أن تبسط على هذا الوجه؛ لذلك انفتح الباب لمزيد من التخليط والتمويه، فصار قليل من التدجيل قادراً على أن ينحلك وصفاً موضوعياً، وبالتالي أصبح في مقدورك أن تتهم نفسك أو يتهمك الآخرون بالموضوعية.
وإنني في حديثي على مصطلح (الموضوعية) إنما أتحدث في أمر نصيبي منه كنصيب من حكى لغة لا دربة له بها، بيد أن علاقة الطروب بالمغنى تخوله بإبداء الرأي فيه، وليس لنا مثل الجاحظ عزاء ودقة حينما أوقفنا على منهج أستاذه النظام مندداً ببنية أحكامه، ومنزع فتواه، حيث قال (إنما كان عيبه الذي لا يفارقه سوء ظنه، وجودة قياسه على العارف والخاطر والسابق الذي لا يوثق بمثله، فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي كان قاس عليه أمره على الخلاص! ولكنه كان يظن الظن ثم يقيس عليه وينسى أن بدء أمره كان ظناً، وكان لا يقول (سمعت) ولا (رأيت) وكان كلامه إذا خرج مخرج الشهادة القاطعة لم يشك السامع أنه إنما حكى ذلك عن سماع قد امتحنه أو عن معاينة قد بهرته).
فالتدجيل البحثي - إن صحت العبارة - له طرق ومسالك، شواهدها موفورة في حقلنا الثقافي، سيما لدى من اعتاد أن يستبق الموضوع بأحد موقفين، وهما موقفان منفصلان من حيث القشرة، غير أنهما متحدان من حيث اللباب، إذ يأخذ أحدهما شكل السلب، ويتلبس الآخر شكل الإيجاب، فلا يكون الموقف سلبياً إلا باعتبار حركته إلينا، ولا يكون إيجابياً إلا باعتبار حركتنا نحوه.. ففي موقف الإيجاب، يكفينا، مثلا، أن نتوهم معنى ما، ومن بعد ننتخب له نصوصاً تحاكيه ولو من جانب مرجوح، لنستحق به وسام الموضوعية، وعلى العكس من ذلك يأتينا موقف السلب؛ إذ حسبنا منه أن يعترضنا نص ما، ليصادف فينا هوى ما ليخرج على الأثر شيء عليه أورام (الموضوعية)..وفي الموقفين يترسخ نسيق يحسن ضفر المعنى بالنص أو ضفر النص بالمعنى.
وباسم هذا اللون من (الموضوعية) فشت أنماط نصية حجبت بنفاذها ورواجها آلاف النصوص التي لم يكتب لها الذيوع إلا في أسانيد المحدثين أو مدونات الفقهاء.. وبحوك آخر؛ أمست باسم هذا اللون من (الموضوعية) آلاف النصوص سكينة مظانها لعدم تطابقها وأحد الموقفين. ولقد دفعت هذه السهولة في النظر إلى السيولة في إقامة ما يسمى بالمشروعات الفكرية أو الأدبية التي لا تنفك تعزل العنصر عن مركبه لا لدراسته وتمحيصه بل لجعله مستقلا عن مجاله الذي لن يكون له وجود بدونه، في محاولة لوضعه كأساس يتم النهوض عليه للوصول نحو فكرة أشمل، وهذا ما يفسر العرج الذي تتطوح بسببه أكثر الأبحاث أو الرسائل النظرية. والخلاصة أنه متى تصورنا الموضوع بنحو مسبق أو بنحو مصادف فإننا خليقون بالغرق في مداحض الذاتية، ولست أزعم أن ثمة موضوعاً منزهاً عن عمل الذات فيه، لكنني ميّال إلى حسبة التناسب التي تستدعي غلبة الموضوع على الذات، أما غلبة الذات على الموضوع فهي من مزلة المنطق الصوري الذي يسيطر على المعتم من الذهنية العامة، وإن كانت لا تعلم أصول هذا المنطق إلا أن له وشيشاً فيها، هذا المنطق الذي تكون المقدمة فيه أشمل من النتيجة، والنتيجة فيه لا تعدو جزءاً من المقدمة كقضية:
كل إنسان فان..وسقراط إنسان.. إذن سقراط فان
فهو منطق لا يشتغل بإثبات مطارحه بعد أن يضعها في علاقات، لكن اهتمامه منحاز إلى الشكل المنطقي للقضية، منطق ينطلق من مسلمات قبلية مشحونة بالتأثيرات الذاتية، وبالأهواء الشخصية، ومنهج فيه دفء لذهن شغوف بالبساطة، مقتصد في بذل الجهد، يستمرئ تمثل مبدأ (نص) أو عدة مبادئ، يفسر بها مجموع الأشياء المادية والأخلاقية.. أفضى هذا مع الامتداد الزمني إلى تصوير العالم بذات الصورة التي نجد فيها أنفسنا، تصويراً مغلقاً، مستتباً متناهياً، فيه إرضاء لبعض مطالب عقولنا، وقد لا يطفو هذا النهج في ألفاظنا ولا كذلك في مكاتيبنا، بقدر ما يسيل من تحتها سيلاناً خفياً معيباً في مقادير البحث، ومناتيج التجربة.


NF_1392@HOTMAIL.COM

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved