الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 17th October,2005 العدد : 127

الأثنين 14 ,رمضان 1426

قصة قصيرة
أرحم الراحمين
مريم خليل الضاني
أسير في السوق بمفردي.. أحمل على كتفي حقيبة متوسطة الحجم تحوي كل ما أملكه في الدنيا.. بعض الملابس.. أدوات زينة قديمة.. دفترا.. أقلاما.. قليلا من النقود.. هاتفا.. مصحفا صغيرا وصحيفة اعلانات عن وظائف شاغرة. أحسست بالجوع والإرهاق.. جلست على مقعد خشبي تحت ظل شجرة وارفة على الرصيف، تأملت المباني المرتصة على جانب الطريق.. عشرات النوافذ تخبئ وراءها الكثير من الحكايات والمشاعر والقلوب.
تنهدت بحسرة.. سبحان الله.. وحيدة وليس لدي الكثير من المتاع إلا أن الأرض ضاقت علي بما رحبت، ولا مكان لي في هذا العالم المكتظ بالبشر.
تلفت حولي.. السوق يعج بالرجال.. آه ما أقسى الحياة بلا رجال..
الرجال.. تلك المخلوقات التي مرت بعالمي دون أن تستوطنه، ذقت مرارة اليتم صغيرة ومنذ أن تزوج أخي الأكبر تحول إلى عجينة تشكلها زوجته كيف تشاء، وأخي الثاني هاجر إلى كندا منذ سنتين وانقطعت أخباره عنا، أما أعمامي وأخوالي فلا نراهم إلا في العيدين، وحين تزوجت عصام ظننت أنه الظل الوارف الذي يقيني من هجير الحياة.. ولكنه كان ظلا حارقا.. اكتويت فيه بنار الخيانة والاهمال والاحتقار، ولم تكن خيانته لي نزوة عابرة بل واقعا يوميا مستمرا متجددا، وكنت أتصبر من أجل بناتي الثلاث، لقد خشيت أن يصبن بالعدوى في ذلك البيت الموبوء وتسحبهن رمال الرذيلة المتحركة.. كان لا يعدم وسيلة لإيذائي جسمياً ونفسياً، وكلما ازداد فجوره وطغيانه أفرغ الله عليّ صبرا، كان يحس أن صبري زيت حار أصبه فوق نار جنونه فيزداد هيجانا، وربما قال في نفسه: متى ينفد صبرها وتخرج من بيتي حتى لا أرى وجهها وعينيها اللتين تجلداني بسياط التأنيب والاحتقار والبغض.. في آخر مرة تشاجرت معه، قال إنه سيطلقني ويعطيني بناتي وأنه سيخرج من البيت ليسكن في بيت آخر يمتلكه، كان يعلم أن خوفي على البنات هو سبب بقائي في بيته فصدقته وانتظرت أن يطلقني من تلقاء نفسه ولكنه لم يفعل، عندها طلبت الطلاق فطلقني ولم يعطني البنات بل طردني من بيته، تلك السنين التي عشتها معه كانت موتاً بطيئاً خرجت من سجنها بعدد لا بأس به من الأمراض النفس جسمية.. ثم تزوجت ابنتي الكبرى وبقيت شقيقاتها في بيت والدهما لا يؤرقهما فراقي لأنهما مستمتعات بتدليل والدهما المفرط والحرية المطلقة التي منحهما إياها.. والآن يقول لسان حالهن: أخيراً خرجت أمي من البيت.. فلا رقيب ولا مشاكل.. ذات مرة قالت لي ابنتي الصغرى حين لاحظت أنني أشك في مكالماتها الهاتفية التي تستمر إلى الفجر: ألم يطلقك أبي؟ لماذا تأتين إلى بيته إذن؟ لا تخافي علينا نحن سعيدات بدونك.
حين خرجت من بيت عصام ظننت أن طلاقي منه هو نهاية العذاب، ولكنني اكتشفت عذاباً من نوع آخر في بيوت اخواتي الثلاث.. فأنا الآن امرأة بلا مأوى.
أما أختي الصغرى فسيدة مجتمع راقية.. مسجونة في قوقعة الدعة، ابتليت بفتنة السراء فلا تدرك أن هناك خلقاً يحيون خارج حدود جسدها الذي يكلف تنظيفه والعناية به أموالاً طائلة لأنه جسد مختلف تماماً عن أجساد البشر، أيامها مبعثرة في الاسواق وصالونات التجميل والحفلات المخملية التي تدعو إليها صويحباتها اللاتي يعشن ذات نمط الحياة المترفة التي تعيشها هي.
زوجها.. كهل ثري همه نيل رضاها، وبيتها.. بل قصرها ممتلئ بحجرات مخصصة لعرض الأثاث الراقي، وحين أمكث في بيتها بضعة أيام لا اراها إلا مرتين.. مرة حين أدخل البيت فأسلم عليها وأصعد إلى إحدى الغرف المخصصة لنوم الضيوف، والمرة الثانية حين أودعها بعد انتهاء زيارتي لها، وقد تكون حينئذ مستلقية على الأريكة تحدث صديقاتها بالهاتف ووجهها مغطى بأقنعة العسل والخيار واللبن فتكتفي بأن تلوح لي بيدها مودعة.
وأختي الوسطى اعتادت عائلتنا على تلقيبها باسطوانة النكد.. فمنذ اللحظة الأولى التي ألج بيتها إلى أن أنصرف وهي ما تزال تردد ذلك الموشح الذي حفظته عن ظهر قلب من كثرة سماعي له: لقد أخطأت خطأ فادحاً حين طلبت الطلاق من زوجك.. إنك لا تفكرين بعواقب القرارات التي تتخذينها.. ها أنت تتنقلين من بيت إلى بيت.. كان عليك أن تتأسي بي.. لقد صبرت على قسوة زوجي وسوء خلقه لكيلا أواجه المصير الأسود الذي لاقيته. وما من مرة أزورها إلا وأصاب بصداع شديد لا تسكنه الحبوب المهدئة فأضطر إلى الهرب إلى بيت أختي الكبرى التي هي أكثر اخواتي عطفاً وحناناً عليّ، وأنا موقنة أن الأمر لو كان بيدها لما تركتني أتنقل بين بيوت اخواتي أبداً، ولكنها منذ سنوات قليلة تكفلت برعاية أمي التي أقعدها المرض، وزوجها بخيل ضيق الصدر دائم العبوس والتذمر؛ لذا فإنها لا تألو جهداً في مداراته واسترضائه كي يتحمل بقاء أمي في بيته. قطع الجوع حبل خواطري.. تلفت حولي أبحث عن مطعم قريب.. تذكرت مكانه.. لا لن أذهب إلى المطعم.. سأذهب إلى ابنتي المتزوجة وأتناول عشائي هناك، بل.. لماذا لا أسكن عندها أليست ابنتي هي أولى الناس بإيوائي؟ ألم أحملها وهناً على وهن؟ ألم أربها عشرين عاماً حتى غدت شابة يافعة كبيرة؟ قد يضيق زوجها ذرعاً ببقائي في بيته، ولكنه سيعتاد على ذلك الوضع الجديد مع مرور الأيام. أوقفت سيارة أجرى وذهبت إلى بيت ابنتي.. فتح لي الباب زوجها، استقبلني بأدب جمّ وابتسامة عريضة فاستبشرت خيراً.. ذهب ليوقظ ابنتي التي ما أن رأتني حتى احتضنتني وسلمت عليّ بحرارة. همت بأن تتركني بعض الوقت لتعد لي العشاء، ولكنني آثرت أن أخبرها بقراري قبل أي شيء آخر.. قلت لها: لقد قررت أن أسكن معك.. أنت تعلمين أن وضعي غير مستقر في بيوت اخواتي.. وأنت بنتي وأولى الناس بي، حاولت ابنتي أن تتظاهر بالسرور وترسم ابتسامة ما على شفتيها ولكنها فشلت.. أطرقت هنيهة ثم استأذنتني كي تحضر لي فراشاً أنام عليه، دخلت إلى حجرتها وأغلقت الباب.. بعد قليل تناهى إلى سمعي نقاش محتدم حاد.. وعيت طرفاً منه فأردت أن أتأكد مما سمعته فاقتربت من باب الحجرة واسترقت السمع.. كان زوجها يقول: ولكنك تعلمين أن أمك مسكينة ليس لها بيت.. ولو أنها وجدت الراحة والاستقرار عند اخواتها لما لجأت إليك أبداً، وكان الأجدر بك أن تطلبي منها أن تسكن معنا ولا تنتظريها حتى تطلب منك ذلك الأمر. قالت ابنتي: أنا أعرف ذلك.. ولكن بيتنا صغير والحجرة الوحيدة الفارغة فيه كنت أنوي تحويلها إلى صالون للتجميل.. لقد تعبت ودرست دورة التجميل لمدة سنة كاملة وادخرت من أجل تجهيز تلك الحجرة لذلك.. وبقاء أمي معنا يعني أن....
لم أستطع أن أكمل الاصغاء لذلك النقاش، خرجت من بيت ابنتي مهشمة.. لا تكاد ساقاي تحملاني.. أشعر بصداع شديد.. ودوار واضطراب في الرؤية ورغبة في التقيؤ، ذات مرة قرأت أن تلك الأعراض قد تكون مقدمة لحدوث جلطة دماغية (ليتها تكون كذلك كي أرتاح ويرتاح مني الآخرون)، في جوفي تضطرم حرائق كثيرة.. تلتهم ألسنتها كل حياتي الماضية، عائلتي.. إخوتي.. أخواتي.. بناتي.. أصبحوا مسميات جوفاء ميتة لا مدلول لها، أنا الآن لا أنتمي لأي إنسان أو مكان على هذه الأرض.. ولا تربطني بهذا العالم أي صلة.
جلست على عتبة بناية بعيدة عن الطريق كي لا يراني أحد.. غرقت في ظلام الليل وظلام نفسي وظلام الآخرين.. بحر لجي.. ظلمات بعضها فوق بعض، وفي خضم ذلك الظلام لاح لي بصيص من الضوء.. هدأت نفسي قليلاً.. تذكرت الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم حين ذهب إلى أهل الطائف وهو راج أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله جل وعلا، فصدوه وأغروا به سفهاءهم يسبونه ويصيحون به ويرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه.. كان حزيناً.. غريباً.. وحيداً.. حاولت أن أتذكر كلماته التي قالها حينئذ ولهجت بها (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس.. يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي عضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك)، ثم رفعت يدي ودعوت: (ربي إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين).. وقبل أن أكمل الدعاء رن هاتفي فظننت أن ابنتي تبحث عني لتعتذر لي، ولكنني فوجئت بصوت غريب:
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام.
- السيدة أمل؟
- نعم أنا أمل.
- أنا آسفة لاتصالي في ساعة متأخرة من الليل، ولكنني اضطررت لذلك.. أعتقد أنك لا تتذكرينني، أنا أم سمير مديرة مشغل السعادة للخياطة، لقد أتيتِ إلى المشغل لتبحثي عن وظيفة شاغرة قبل شهرين، وحينئذ لم يكن لدينا أي وظائف شاغرة.. أما اليوم فقد استقالت محاسبة المشغل، هل يمكنك أن تشغلي هذه الوظيفة؟.
- بالطبع يمكنني ذلك.
- نحن بحاجة ماسة لك لأننا الآن في موسم الصيف والمناسبات كثيرة والعمل في المشغل على أشده، وكما تعلمين فإن المشغل يوفر لعاملاته سكناً ملحقاً به.. ليتك تأتين الآن إن استطعت ذلك.
- سآتي إليكم الآن إن شاء الله.
- لا تتأخري نحن في انتظارك.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved