بأسى القلوب وفيض دمع العين |
أرثي فقيد الشعر والتضمين |
ورثاؤه دينٌ عليَّ قضاؤه |
وأراني فيه لم أفِ بالدَّيْن |
إن المصاب له عظيمٌ والقضا |
خطبٌ أليمٌ في صميم وتين |
لو كنتُ «شوقي» في براعة «حافظٍ» |
ما كنتُ مُوفٍ واجب التأبين |
أيوفى من كان الهزار مغرِّداً |
في «الحفل» و«التخريج» و«العيَديْن» |
يلقي روائع حكمةٍ في نظمه |
وبدائع الأنغام في التلحين |
وأجلُّ شيء في المجالس ذكره |
في النشر والتعليم والتدوين |
وكفى به الاعجاب إن نادمته |
في الشعر «غازي»(1) الشعر في «البحرين» |
يا شبابَ الطموح أين البناءُ |
أين صرح الشموخ، أين الإباءُ |
أين آثار ذكركم أين مجدٌ |
كان قبلاً، والعزة القعساءُ |
كان منا الهداة في كل أرضٍ |
ودعاة الصلاح، والعلماءُ |
كان هدي السماء يُوخذُ عنَّا |
ومن الهدي سنةٌ سمحاءُ |
ذَهَبَتْ تلك الصفات وولَّت |
واختفى العزُّ والصَّفا والوفاءُ |
وبلينا في وقتنا بشبابٍ |
زيّهم والنساء فيه سواءُ |
ولباس الثياب ضاقت عليهم |
وكعوبٌ بدت لِرِجْلٍ حِذَاءُ |
وظفور كمخلب النسر طالت |
ونَمَتْ حتى ملُّ منها النماءُ |
لست أدري إذا مَشَوا في سبيل |
أهمو القوم في الوَرَى أم نساءُ |
والذي ساءني وقوَّى انتقاديَّ |
أنكم في صفوفنا أذكياءُ |
رُبَّ حيّ كميِّتٍ، وهو يسعى |
وكثيرٌ موتى، وهم أحياءُ |
سجَّلْتِ أروعَ موقفٍ يا سناءُ |
فيه الخلودُ ورمزُه وسماءُ |
ووقفتِ أعظَمَ ما يذاع بمشهدٍ |
عن مثله يتقاعسُ الشجعاءُ |
يُزجيكِ حبٌ للنِّزال وللفدا |
والموتُ في شرف الفداءِ رضاءُ |
لم يثنِ فيك العُمرُ عزماً جازماً |
كلا، ولا الاحلامُ والآراءُ |
للفاتناتِ روائحٌ عطريةٌ |
ولكِ مثار النقع والرَّحْضَاءُ (2) |
ودخونهن العودُ يُصلي نارُه |
ودخونك البارود واللَّفْحَاءُ |
يا أمها لا تحزني لفراقِها |
ففراقها لو تعلمين لقاءُ |
فابكى له فَرَحاً وغنِّي نشوةً |
ولرُبَّ أفراحِ غنى وبكاء |
واستقبلي فيها التَّهاني والعَزَى |
فيمن أتَوا موتى وهم أحياءُ |
والقائمون على الأمور يهمُّهم |
يبقى الهوانُ بهم وهم زُعَماءُ |
يتوافدون على العواصم تارةً |
مستجديون، وتارةً خطباءُ |
خُطَبٌ يردَّدُ في المحافلَ لَفْظَها |
ويٌشَمُّ منها العَجْزُ والإعياءُ |
ومما قاله عنه الصديق (حسن راجح): يتصف الشيخ (محمد عقيل) إنساناً، بدماثة الأخلاق، والتواضع، سريع البديهة، حاضر النكتة، لاذع السخرية لمن يحاول النيل منه.. كبيراً مع الكبار، رحيماً بالصغار، محبوباً في كل مكان ومجلس.. عالماً مرناً، ومحدثاً لبقاً.. متذوقاً للشعر العربي قديمه، وحديثه.. ملمَّاً بأصول النقد الأدبي» (نشرة أصوات) العدد الثاني ربيع الآخر 1424ه (ابريل 2003م تصدر عن نادي جازان الأدبي). |
كان شيخي، وأستاذي (محمد عقيل) يتمتع بكثير من المزايا التي أهَّلته ليكون نجماً كبيراً متلألئاً،، وقمراً متألقاً في مجتمعه بحيث يندر أن تجد من لا يعرفه.. يغشى مجالس البسطاء، ويأنس للحديث معهم، وبلهجتهم.. يشاركهم أفراحهم، وأحزانهم.. حيث يجلس يتحول إلى صدر المجلس!! |
حين سألته مرة: هل تنام بيسر وسهولة في هذا العصر «البركان» المرزوء بأمراض القلق، والاكتئاب، والخوف، والأزمات، والمجاعات، والحروب؟ |
أجاب بروح تسكنها راحة «الإيمان»: إنني أنام قبل أن يصل رأسي إلى الوسادة.. فأنت تعرف أنني أنام مبكراً، وأصحو قبل أن تغادر الطيور أوكارها فجراً.. إنني كما يقول الشاعر: |
دع المقادير تجري في أعنّتها |
ولا تبيتنَّ إلاَّ خالي البال |
ثم قال لي بأسلوب الحكماء، الذين زهدوا في الحياة: المشكلة يا بني وكنت أُسَرُّ لهذه الكلمة هي الإنسان نفسه.. إنه مثل الطفل يكسر «اللعبة» أو يفجر «البالونة»، ثم يبكي وينوح عليها.. أصحاب المشاكل في الحياة بعضهم يعطون للأمور، والأحداث أكبر من حجمها» ثم يحزنون، ويقلقون، ويكتئبون!! |
المشكلة أي مشكلة هي عدم وجود مشكلة، ولا طعم، ولا لون، ولا رائحة لها.. إنها «اللاشيء»، فلماذا يشغل الإنسانُ نفسه «باللاشيء». |
كنتُ أحب مناقشته كثيراً.. خشيت من مضايقتي له، فاعتذرتُ له مرة.. رَدَّ: بالعكس إنني أشعر بالسعادة.. لأنه من خلال النقاش تنبثق الحقيقة ضالة المؤمن!! |
الإنسان لا يتعلم إلا بالنقاش الذي يوجب «السَّماع» الذي قامت وتمت عليه ثقافتنا العربية والإسلامية، قبل أن ينتشر الكتاب في صفوف المتعلمين، والمثقفين.. السماع يصلح أعوجاج اللسان، ويحدُّ من عثراته.. لهذا قام التدريس والتثقيف في تاريخنا من خلال ارتياد حلقات الدرس، ومجالس العلماء، والأدباء، والنحويين، واللُّغويين. |
اليوم يتعلَّم ويتثقَّف الإنسان من خلال «الكتاب» فكأنَّه يستعمل حاسة البصر.. بينما في الماضي كان يستعمل حاستي البصر، والسماع!! |
وقد ذكَّرني كلام «شيخي واستاذي» بموقف حدث معي في المرحلة المتوسطة بجيزان، حين كان أحد المدرسين الجامعيين من إحدى البلاد العربية يدرِّسنا «المطالعة العربية»، وجاء دوري في القراءة فمررتُ بكلمة «يقشعر»، طبعاً دون تشكيل، فسألتُ مدرسي عن نطقها فرد «يُقَشْعِر» بضم الياء وفتح القاف، وسكون الشين، وكسر العين.. لا أدري لماذا لم أهضم نطق المدرس للكلمة، فلجأت بعد الدرس إلى «شيخي وأستاذي، وأخبرته عن المسألة.. فوجدها فرصة لتأكيد أهميَّة «السماع» قائلاً: هذه من مشاكل التدريس الحديث القائم على القراءة، دون السماع.. ثم صحَّح لي نطق الكلمة على عكس ما نطقها المدرِّس. |
وقد سمعتُ أن أحد أبنائه وهم كُثر ما شاء الله يقوم بجمع قصائده الشعرية التي لو تمت طباعتها لأضافت إلى ديواننا الشعري صوتاً كان متوارياً عن الأضواء. |
وأخيراً ليس لي إلا الدعاء بأن يغفر الله لشيخي وأستاذي (محمد بن عقيل بن أحمد بن بشير بن حنين الهمداني)، وأن يتغمده بواسع رحمته.. مردِّداً قول الشاعر: |
والموت نقَّادٌ على كفِّه |
جواهرَ يختار منها الجياد |
|
ص.ب (7967) الرياض (11472) |
الحواشي: |
(1) يقصد الشاعر الصديق الدكتور (غازي عبدالرحمن القصيبي). |
(2) الرَّحْضَاء: العَرَق. |