الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 17th November,2003 العدد : 37

الأثنين 22 ,رمضان 1424

استراحة داخل صومعة الفكر
رهبة الظل
محمد إبراهيم يعقوب
سعد البواردي

الظل ظلان.. ظل تتفيأه ونحتمي به من وهج الشمس في يوم قائظ.. وظل نخافه ونخشاه لأنه يمثل ذلك الشبح الذي يرصدنا.. ويترصد خطواتنا ويسلمها الى الخوف..
أي الظلين يتحدث عنه شاعرنا أمام مشاعرنا المترددة بين أمل.. ووجل.. بين رغبة ورهبة.. هذا ما سوف يفصح عنه شاعرنا يعقوب من خلال ديوانه.. ويبدو من عنوانه انه حزم أمره واختار مالا نختار له.. ولنا.. ولغيرنا.
وكانت لنا فرضية الاختيار غير واردة.. ولكن من يدري فقد نتسنم نسيمات عليلة تحت ظلال شجرة وارفة.. أو حتى خلف جدار مائل نسند عليه ظهورنا سويعات ظهر حار..
من عنوان أولى قصائده «مواسم الوجع الأخضر» خشينا على رؤوسنا من ضربة شمس حارقة خارقة تسلمنا الى الدوار.. إنه يقول:
«أعود كابتسامة الغمام
وشهوة الرمال في عظامي
واصطفي هناك من جنوني
غواية تليق بالغرام
وصحوة البياض تحتويني
فأرشق الفضاء بالمدام!»
بداية مشجعة قوامها عشق الوجود.. وأغنيات.. وطي الرحلة.. كل هذا من أجلها.. جميل هذا المدخل الوجداني.. ولكن لماذا يحبها مرتبكة اربكت معها حبه وهيامه أليس الأجدى ان تكون في مأمن من القلق والخوف؟!
إنه يدعها لنا تعيش ارتباكها ليحكي لنا ارتباكا هو الأخطر على قلبه وعلى حبه بدأ يسيطر عليه ويستحوذ على حواسه.. ويضغط على كلماته:
«أحبكِ.. المواجع استحالت
مواسما.. تراود ابتسامي
نعم. أنا على فمي شتات
وفي صداي نزعة اقتحام
فإن سمعتم الهوى ينادي
فربما سمعتم انهزامي..»
البداية اقتحام.. أو محاولة اقتحام.. والنهاية انهزام هكذا عودنا شعراء الغزل تنتهي مواقفهم الى تساؤلات:
«الى متى نلملم البقايا؟!
الى متى نضيع في الزحام؟!
وأنا بدوري اسائل المشاعر الى متى؟ أليس للحب أكثر من باب. وأكثر من جواب؟!
هذه المرة يستعيد من ذاكرته سديمها كي تتذكر:
«عودي إذا شاء الهوى أو شئتِ له
فالقلب ضل طريقه نحو الوله
واستوقفي صدق الحنايا ساعة
وتوقفي.. هل تدركين تململه؟!»
إنه على عزمه رغم رحيلها.. ورغم ما يعتريه من خجل يستعيد الأسئلة.. فالنبض ما زال حياة كحياة المكان يضيق بالأسئلة ويحاول قتلها.. سرد ينزع الى الخيال.. ويرسم صورة معاناة معبرة تنم عن مشاعر قادرة على الافصاح.. إلا ان ما يشتهيه كان مجرد أمنية غائبة بغيابها:
«عودي فما اقترفت سواك مواجعي
والصبر اثم لا أطيق تحمله»
الاقتراف بنهايته تحول الى هزيمة وضعف ترفض الجلد.. وتأبى الوقوف بشجاعة أمام التجربة.. وتلك مشكلة.. «جلال المنفى» اتجاوزها لغيرها مكتفيا منها بهذين البيتين الرائعين أسلوباً وديباجة:
«إذا لم تريقي على جبهتي
صباحا نديا به أعبق
فأنتِ القضاء الذي يحتوي
وأنتِ المساء الذي يهرق».
ماذا بعد..؟! لا شيء اضافه شاعرنا غير التغني والتمني.. والاستجداء.. والحب القوي لا وجود للاستجداء في أبجدياته.. وتأتي «خطوته الأخيرة باتجاه الجرح» «آه من هذا الجرح الذي لا يندمل ولا يتوقف نزيفه أمام عتبات الحب من جانب واحد:
«أرجوك
لا تقفي سؤالا
تحت أنقاض الجواب»
ليس هذا فحسب وخطاه المجهدة نحوها وقد عجنت ملامحها بأشلاء الارتياب أفضت به في نهاية المطاف الى حزم أوردته ليرحل حاملاً جرحها وقد نسي بابه. الى أين؟ لست أدري..
في حشرجات راقصة كرقصة الديك المذبوح يرسم لنا ظلا جميلا بريشته المعذبة في صدق..
«غافلَ القلب وانتبه
ليته أدرك الشبه
ليته حين لم أبح
بالهوى كان كذبه
أو تلافى سريرتي
أغنيات مذوبه!».
ماذا فعل أمام مفردات التمني.. وليت وحدها لا تصنع بيتا لعاشق وفي متابعة متأنية لتلك الحشرجات الراقصة من الألم انتهى المشهد المأساوي المعجون بسوء الظن الى قهقهات.. وانتفاخ مزيف.. ودون نهاياتِ مَوهبة مع الأسف.. هكذا عودنا شاعرنا المحلق شعراً.. والمخفق تجربة..
ولأن الرجاء كالتسول في نتيجته.. لا يؤدي إلا إلى الاستخفاف والتغالي، والتعالي لأنه مظهر ضعف في شخصية الشاعر العاشق فقد أعادنا شاعرنا من جديد الى «ايقاع الرجاء!» وهنا يصف لنا عذراءه التي تعبث بالمنى، ويفيض منها المستحيل ومع هذا يركع أمام قدميها وهو يغرقها توصيفا وتشبيها بالسنديان في قوامها وطولها الى درجة اشتهاء النخيل لرحيق قبلاتها.. مشبها حديثها كرجع الجدول.. اغراق في الموصف.. واستغراق في صفة اللامعقول.. لهذا كله تركته لشعره زاداً يقتات منه وجعه.. وهجره.. لأنه لا يملك لغة الإثارة.. وخطاب المقاومة..
ومن وجع الى آخر.. هذه المرة مع «الوجع النبيل».. ويبدو ان ريحه يمانية ينم عنها بيته ولبنانية تذكره بالبردوني
«وخذ من آخر العمر انعتاقا
الى صنعا.. وقل هذي سبيلي»
ومع خطوات قصيدته تتسع مساحة معاناته لتستغرق الأقصى. والجولان. وبلاد الرافدين. والأطفال الجياع. والمشردين.. كان وجعه نبيلا هذه المرة.. لم تكن امرأة.. وإنما وطن.. وشعب.. ومصير أطفأ من أجله القناديل الحيارى.. وأعلن الحداد على سماء هوت.. ولكنها ابدا لم تسقطه فوق الخلود كما ذكر.. وإنما على حراب وخراب اليهود كما هي الحال..
ومن وجعه النبيل الى مناجاته الرائعة التي أجاد صياغتها وحبكتها الفنية الى درجة الابداع.. ماذا يقول أو تقول؟!
«سآوي إليك
فكل الموانئ والذكريات
تذوب. تذوب على وجنيتكِ
وأنتِ الحياة
وما الحب الا شعاع شفيف
يضيء الطريق، يدل عليكِ»
ويوظف أطيافه القزحية في رسم الصورة ابتداء من اشراقة الصباح، وزقزقة العصافير وصولا الى قطرات الندى التي تبلل أغصان الشجر.. نهاية بالنجوم التي تذوب وتغضي لفرطه حيائها من جمال صورتها:
«لماذا إذاً ترتدين الندى؟
وتقضين ساعات عشق دفين
لما بين عينيكِ
بُعد المدى
رحيل اليكِ. وعود اليكِ
وتبقى الملامح نفس الملامح
لا تستدير. ولا تنحني»
تطل على قلبه شاخصة شخوص الحياة وثباتها.. ملاحظة ألا يهمل شاعرنا علامات استفهام كثيرة لابد منها..
«رجع الخاصرة» أرجو ألا يتحول الى وجع الخاصرة كما عودنا شاعرنا في محطات رحلته.. وقبل الحكم عليه أو له لابد من أن ننتظر:
«أتعرف الحب أم ما زلت تجهله
لقد سئمتك.. حتى كدت أجهله»
بداية جيدة لشاعرنا.. فلأول مرة يأتي الضيق والملل منه بل الانهزامية والتسول.. ومع هذا الكبرياء الجديد لو أنه استمر لا أحد يجهل الحب.. فعلى دعاماته قام بناء الحياة.. ونماء الأحياء.. لا خلاف على الحب.. وإنما الاختلاف على فهمنا له.. وهضمنا له.. ومدى استشعارنا بقيمته كغذاء روحي وجداني وانساني.. وحتى لا أنسى رجع خاصرتك أعود اليها بشيء من اللهفة والتشوق لاستكشاف أبعادها.. انه يؤكد سأمه:
«نأيت حتى حسبت النأي ذاكرتي
وعدتُ جرحا لعلي فيك اقبله»
شيء غير مقبول ان يتحول أنت الى جرح.. دع الجرح له هذه المرة على مسؤوليتي وافتح حرف التاء دون تردد.. ويبدو ان فكاك قيد الأسر من عقدة حبك بعيدة المنال. هذا ما أكدته أنت دون موارية:
«أداعب السهد. ألهو في مغبته
وآخر الليل من نزفي أجدله
ففي ضلوعي حنين قائم ابدا
ولا أظنك جئت الآن تسأله»
دعه لصمت جفوته.. من لا يسأل ليس جدير بأن يُسأل حتى ولو كان في حسن فينوس.. وفي فتنة كيلوباترا لاحسن ولا فتنة لمن لا يعرف طريق الوفاء.. ومن يقابل الوفاء بجفاء.. ان قصيدتك في صياغتها البلاغية رائعة.. تنقصها شجاعة الموقف.. وبعض علامات استفهام غير موجودة..
«اقتراف الشدو» لا أعرف للشدو اقترافاً.. انه ترجيع جميل لحلم جميل بنغم جميل.. أما الاقتراف فعملية سطو آثم يحاسب عليه فاعله.. فهل ان الشدو آثم يستحق المساءلة..؟! أمر غير مفهوم.. لهذا سندعه لفهم المتلقي دون ان نحاكمه.. وسنطوي خلفنا رجع الخاصرة المكررة.. فما أشبه الليلة بالبارحة.. ونبرح المكان الى حيث التكرار الثاني في ديوانك لقصيدة «اقتراف الشدو».. خطأ طباعي لا ذنب لك فيه وننصت معا الى قيثارة ذاتك كي تعزف وكيف تُرجع الحانها:
«لعينيكِ ابتداءاتي
وتاريخ اشتهاءاتي
وخلوة اعذب الذكرى
وبوح الحاضر الآتي»
الى ان يصلنا بقيثارته.. ويوصلنا بخطابه لها:
«أيا قيثارة باحت
بأسرار ابتهالاتي»..
ويعددها واحدة واحدة جنونه، صبوته. نزقه. غروره. ضيق مرآته. كلها مقاطع لأغنيته أفضت به الى أشجان نهاياته. والى هزيمة بداياته..
«هزمت. هزمت.. أزمنة
وكان الخوف راياتي
أحث خطاي لا أدري
الى أين اتجاهاتي».
المهزوم يا شاعرنا تضيق به المسالك والدروب على اتساعها.. ولقد اخترتَ رفع الراية البيضاء، مستسلما في كل معارك حبه.. غيرك هو الذي يحدد لك الاتجاه لأنه المنتصر..
«ملامح الريح» نعرفها جيداً.. ذلك ان «الليلة الغبرا تبان من عشاها» كما يقول المثل العامي.. وبداية ملامح الريح لن تأتي نسيما.. وإنما موجات متدرجة من غبار واصفرار أفق.. فهل ان هذا ما تعنيه؟ لن استبق السؤال بالاجابة.. لسوف انتظر:
«ملامح الريح في عينيكِ ترتسم
وأكثر العمر ان ابصرته حلم»
يمضي معه في طرح أسئلة كثيرة دون اجابة تنتهي به الى القول:
«متى ستسكب احزاناً تهدهدها
لعل حزنا إذا ما انفض يُقتسم
نأى بك الصمت حتى عدتُ ملتحقاً
منى السراب. فهل يهوي بك الشمم»
الشمم يا صديقي صفة شموح لا تهوي. وإنما تسمو بصاحبها.. أما أنت فإن اشكالية قصائدك الجميلة والمعبرة أنها صبت في قالب واحد تختصره عبارة واحدة «حب متسول ينتهي بالفشل» أي أنه لا يمتلك ردع المقاومة ناهيك عن التمرد ورد الجفاء بجفاء لا رجعة معه ولا عودة فيه..
يبدو أنك بمقطوعتك الابداعية «تفتق الحب ضجرا» خرجت من دائرة ما كنت أشكو منه وانتصرت عليَّ أيما انتصار!
هذه المرة كانت شكوى امرأة احسبها لرصيدك الشعري لأنك أنتَ الذي صنعتها وصغتها:
«عبثا يصب الشاي
في كأس الوعود المبهمة
ويسائل الجرح المرير
أقطعة. أم قطعتان؟
ويستدير مضرجا بالأوسمة»
كأنني ضيف حديث العهد
لم ينبس. ولم يفتح فمه»
إنه يعيد لها نفس الكلام المستحيل.. تعيره السماع رغم ان الأمنيات المعدمة أرهقته.. وتجيل طرفها في ملامحه التي أمست لتشوهاتها أمام عينيها كالعلقمة.. وتسائل نفسها:
«أكنت يوما مغرمة؟
هل كنت فعلا مغرمة؟!
يا للنساء البائسات.
كم طفلة مثلي تظن بأنها
تبدو لعاشق حسنها
سر الوجود.. وطلمسه»
لوحة بانورامية رسمت ببراعة تنم عن شاعرية متمكنة لدى شاعرنا محمد يعقوب أهنئه عليها وأشد على يده.. ومع قصيدة العنوان للديوان «رهبة الظل» حيث تساءلتُ وانتظرت الجواب:
«صحا بدء ترحالي. وأدرك آخرُه
ولم يدر ما الذكرى ولا من يذاكره؟
علامة استفهام في غير محلها أحرى بها أن تكون علامة تعجب! ويستطرد قائلاً:
«على إثر ما همت به الريح. طوفت
به الروح. والزاد المسجى مشاعره
تشهاه صوت الليل حتى أداره
كؤوسا. وحتى لم تعتق دوائره»
كل هذا من أجل انطفاء عطش الحب.. وانكفاء لهيبه.. ونغرق معه في بحر من التساؤلات الخيالية الابداعية المجندة توصلنا الى حقيقة ان لكل طموح جنوحا.. ولكل بداية نهاية. ولكل ربيع خريف: ولكل هدوء صخب:
«فيا أيها العمر الذي قام دونه
طموحي الذي أشقى به وأكابره!
لقد كنت أرجو هدأة الحب في دمي
ولكن بعض الحب تبلى سرائره».
«الراكضون خلف الجراد» عنوان ذكرني بالركض وقد نسيته وانا اتجول مع شاعرنا في صومعة الشعرية الشيقة.. الرحلة تستغرقنا دقائقها وثوانيها.. وتحفزنا على سرعة الحركة.. نتجاوز قصيدة الجراد والراكضين لاصطياده.. لأن عولمة عالمنا الجديد تصطاد الضعفاء وتلوي أعناقهم وأرزاقهم دون حاجة الى ركض. ونتجاوز عزة الصبا متسائلين عن ماذا بعد الصبا؟ لأنه الأهم..
حسنا اختتم شاعرنا ديوانه الجيد بصحوة ننتظرها على أحر من الجمر.. آخر الصحو»
«إني كتبتك عشقا لا أحيط به
الله يعلم ما يخفي لك الورق
وقد ذهبت بعيدا في مخيلتي
كيما افتش عن لفظ به ألق
كيما الملم احساسا يبعثرني
بين الزوايا كأني كل من عشقوا
هل تدركين إذا ما ذبت في قلمي
كم ذا ألوذ؟ وكم ذا عنك افترق
الذكريات تداعت فوق منضدتي
والصمت يطبق. والأحلام تستبق
حبر الكتابة أمسى في دمي نزقا
والسيف قلبي فقولي كيف يمتشق؟»
لست يا شاعرنا المجيد في حاجة الى من يقول لك كيف تمتشق سلاحك. وتشهر قلمك.. وتشحذ فكرك.. لقد أعطيت. وأوفيت ومنحتني فرصة ان اتعرف على قلم مطبوع.. وريشة ترسم لوحاتها باجادة لولا أنها متشابهة المضامين. متماثلة النهايات.. ومع هذا اهنئك.. وأشد على يدك.. وفي انتظار عطاء جديد قزحي الألوان يستبعد هوان الحب.. ويحرك البحيرة الراكدة من خلال أحجار شعورية مختلفة المواقع.


الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
قضايا
حوار
تشكيل
مسرح
وراقيات
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved