Culture Magazine Monday  18/06/2007 G Issue 203
فضاءات
الأثنين 3 ,جمادى الثانية 1428   العدد  203
 

المؤتمرات.. السفر.. الأكل
قاسم حول

 

 

عندما كنا، في وطن يصعب فيه السفر، بسبب وضعنا الاقتصادي حيث السفرة نحو الغرب ولمدة عام كانت تكلفنا مائة وخمسين ديناراً عراقياً، عندما كان الدينار يساوي ثلاثة دولارات، كانت السفرة خارج العراق حلماً ليس سهلاً أن نحلم به.

لم يكن بحوزة أكثرنا مثل هذا المبلغ، حيث تكاليف الحياة تساوي الجهد ولا يفيض منه شيء، وكنا نحلم بمشاهدة عالم الغرب الذي نراه في بطاقات البريد وعلى الطوابع البريدية وفي الأفلام السينمائية فتنفتح شهيتنا كثيراً.

نقدم طلباً لمصرف الرهون لاستلاف هذا المبلغ المتواضع ونسافر ونعود ليستقطع من رواتبنا على مدى سنة كاملة فكل متعة السفر إن تحققت ندفع ثمنها غالياً على مدى عام. وعندما كنا نعود نتحدث عن أشياء غير موجودة سوى في أمنياتنا، ونبهر الأصدقاء الذين لا يتمكنون من السفر. وكان الشاعر حسين مردان أكثرنا سفراً، حيث كان الموسرون يحبون شعره وتمرده فيمنون عليه بهبات يسافر بها على نفقتهم وكان يعود ويروي لنا حكايات، عندما رحلنا عن الوطن لم نجد منها حتى حكاية واحدة أو مفردة من حكاية. واكتشفنا بعد حين أنه كان يسافر إلى إسطنبول ومرة واحدة سافر إلى فينا في النمسا ومرة ثالثة سافر إلى صوفيا في بلغاريا، وكان يستأجر غرفة ويبقى فيها ولا يغادرها سوى إلى مطعم أو إلى مقهى في إسطنبول وأيضاً يجلس فيه العراقيون! وعنوانها في (تقسيم جاده سي).. رحمه الله كان ممتعاً في أحاديثه وظريفاً.

بعد أن عشنا الغربة وأصبحنا مواطنين أوروبيين، صرنا لا نحتاج إلى تأشيرة سفر وننتقل من بلد أوربي إلى آخر بكل حرية، صرنا نكره السفر ونحسب له ألف حساب قبل أن نغادر أوطاننا الثانية التي أشك أنها ستبقى في الصف الثاني عندما يزول من أذهاننا الصف الأول من الأوطان!

أنا صراحة عندما أسافر إلى بلداننا العربية لا أجيد طريقة عبور الشوارع، ففي كثير منها لا يوجد تقاطع والناس تركض وهي تعبر الشارع وتداهمني صفارة شرطي المرور الذي أجده غريباً، حيث لا وجود له في أوروبا.

سفرتي تكون منطقية عندما أختار فسحة جبلية وشاطئ نهر خلفه أشجار النخيل وتقدّم لي وجبة سمك مشوي مع لسعة من حرارة الفلفل وحبة طماطة مزروعة في الطبيعة وليس في البيوت الزجاجية مع باقة من النعناع والريحان وحبات طيبة من الزيتون. ثم أشرب الشاي المخدر جيداً وليس مظروفاً ينقع في الماء الحار. ثم أنام في زمهرير المكان.

تأتينا الدعوات من المؤتمرات الثقافية مجاناً، مع (أوتيل) خمس نجوم إمكانياتي المادية لا تسمح لي بالإقامة فيه بدون مؤتمر (ولست بحاجة أصلاً إلى مثل هذا الفندق) وتقديم الطعام المتنوع لثلاث وجبات. ولكن هذا المؤتمر يدعوني لأيام المؤتمر والنقاش من الساعة العاشرة صباحاً حتى العاشرة ليلاً لكي أوقع على بيان يطبع ويوزع للصحافة دون معرفة بالهدف من إقامة مثل هذا التجمع وما هي مبررات تأسيسه.

عندما سمعت عن تأسيس المجلس الثقافي العراقي استبشرت خيراً وقلت عسى أن يجتمع المثقفون العراقيون ويجدون حلاً للخلاص من الأزمة الثقافية التي حلَّت بهم بعد احتلال العراق. فقرّرت أن أسافر وأستمع وأقرر. بعد ثلاثة أيام من حوارات وخطب وكلمات وصراعات لم أجد سوى البحث عن عناوين للأشخاص وليس عناوين للثقافة.

حزنت.. حزنت.. حزنت كثيراً حد البكاء على صدر الوطن الذي ينزف دماً، وقرّرت أن تكون هذه آخر السفرات نحو تأسيس المجالس والروابط والمؤسسات، وأن تكون علاقتي بالوطن هي إنتاج فيلم جميل متقن واضح الرؤية عن العراق أو كتابة قصة، رواية، أو بحث.

إن أخطر ما يعانيه المثقفون الآن هو التهديد بالفناء وليست مسألة ثقافة ممنوعة أو محرمة فحسب، فالمثقفون يموتون كل يوم وتتم تصفيتهم ولا يعرفون أنى يتوجهون، سيما وقد أغلقت دول الجوار أبوابها في وجوه هجرتهم بناء على اتفاق بين الحكومة العراقية وحكومات بلدان الجوار من منطلق أن العراق سوف يفرغ من مثقفيه. هذا الأمر كان يجب أن يكون الملف الأول في الحوار، هذا إضافة إلى خلو المؤتمر من أي بحث بصدد خطورة الإعلام الموجه نحو العراق كوطن والذي تسهم مؤسسات إعلامية عربية في اندلاع الحرائق فيه، حيث لم تبحث الثقافة المرئية وتم التفكير في إنشاء دار نشر في وقت لم يعد النشر مشكلة بعد انتشار الحاسوب، وخمسمائة دولار لصاحب دار نشر أو بدونها يتم طبع الكتاب. كان المؤتمر يبحث في المراكز الانتخابية وشعرت أنه مستعجل للتأسيس حتى يصبح كياناً.. أي كيان. كان على صديقنا صاحب المبادرة في تأسيسه لهذا التجمع أن يتدارس شؤون الثقافة أكثر ويحضر أكثر ويعد مسودات برنامجه بطريقة نظامية وعالية المستوى لكي يحقق هدفه، وهو هدف كبير ويحتاج إلى خطة عملية واضحة، لتحصد الثقافة ثمار ما زرع لا أن يحصد هو سهاماً طعنته في الصميم.

* * *

لعل من أهم ما قيل في المؤتمر قول الكاتب خالد القشطيني: إننا - المجتمعين - في هذا المؤتمر قد أصبح المستقبل خلفنا، وددت لو كان الحاضرون من الشباب الذين لا يزال المستقبل أمامهم!

* * *

كلمة أخيرة أقولها للصديق الزبيدي مؤسس المجلس الثقافي العراقي:

عندما ماتت راقصة البالية في إنكلترا أيام حياة الكاتب الساخر برناردشو، بدأت الاجتماعات بعد أن أحسوا أن مجد البالية في إنكلترا قد أفل نجمه. وتكررت الاجتماعات تلو الاجتماعات ولكنهم لم يتوصلوا إلى نتيجة فقرروا أن يستمزجوا رأي الكاتب الكبير برناردشو فأرسلوا له رسالة يطلبون فيها مقترحاً قد يسهم في إعادة مجد البالية إلى إنكلترا. فكتب إليهم يقول:

إذا أردتم أن تعيدوا مجد البالية فلا تكثروا من الاجتماعات بل ارقصوا....!

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- هولندا


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة