Culture Magazine Monday  18/06/2007 G Issue 203
فضاءات
الأثنين 3 ,جمادى الثانية 1428   العدد  203
 

مفارقة الكتابة
مقدمة في تاريخ الأدب العربي «2»
محمد العامر الفتحي

 

 

يبرهن ماأوردناه سابقاً على أن الرحلة القصيرة كانت شاقة على من يفتقر إلى الوسيلة، فكيف يتصور أحد أن يقطع بدوى بغنمه مئآت الأميال القاحلة..

راحلته قدمه، وزاده السراب! والخلاصة التي أريد الوصول إليها هي أن الصورة المتوارثة عن العرب بأنهم أهل سفر دائم، وتنقل مستمر، وأن دارهم الصحراء، ينزلون بنزول المطر ويرحلون بانقطاعه.. صورة غاية في السذاجة، بعيدة عن الواقع.

والصحيح - كما أشرت - أن الأعراب منهم كانوا يتنقلون، ولكن نقلتهم كانت داخل حدود ثابتة معروفة.

كما أن الحياض والحمى ليست - كما ظن الكثيرون - أحواض الماء، ولكنها أطلقت على الحدود القبلية التي كانت تحترم غاية الاحترام! ولو تصورنا أن العربي أرضه الصحراء وسقفه السماء، لجاز لنا أن نتصور أن جميع تلك القبائل كانت تأخذ نفس الاتجاه في رحلتها نحو الغيث، فإن كان شمالاً كان الجميع شمالاً، وإن كان شرقاً كانوا كذلك، ولم يكن لنا أن نسمع بمملكة كنده، ولا بديار بني أسد، ولا بمنازل زبيد، ولا بعبس وذبيان، فالأرض واحدة، والوجهة الرعوية واحدة! وهذا ما لم يقل به عاقل قط! أسوق ما تقدم لأن الدكتور الباحث يرى أن العرب كانوا دائمي (الرحيل والتجوال بحثاً عن ماء بلا صاحب أو اغتصاب ماء من صاحبه)

(1) ويظن أن (الرحيل عن الماء لعنة تفرض دائماً العربة والتجوال وتملأ الصحراء ببقايا حيوات وقرى ماتت بموت الماء)! (2) وهذا تصور شديد النقص أدى إلى أحكام شديدة التطرف! الشيخ والرعية (القطيع)..

والمؤلف لا يرى في شيخ ال قبلية أي قيمة دنيوية تؤثر في مسيرة الحياة القبلية، وتحفظ اتزان الواحد والمجموع فيها، إن شيخ القبيلة عند الدكتور لا يعدو أن يكون اختراعاً جاءت به القبيلة للمحافظة على روح المماثلة - ويعني به أن يكون الآتي مثل الماضي تماماً - وعلى هذا فالدكتور يظن أن (الأعراف والدين والأمثال والأقوال) إنما (تنقل الرؤية العميقة للمماثلة) غير متنبه لما تمثله تلك الأمور مجتمعة من انتماء وإشباع روحي ووضع نظام يحفظ الحقوق ويجعل الحياة الإنسانية ممكنة التحقيق، وتختلف عن حياة الحيوان..

مع العلم بأن للحيوان حياة اجتماعية وقيادة للقطيع لا ندري إن كان الدكتور يظنها - كذلك - لغرض المماثلة! وبقية أفراد القبيلة في استنتاجات الدكتور (قطيع) لا يمتلك العقل إلا لوظيفة واحدة هي ((لأضبط نفسي نيابة عن الراعي تجنباً لزجره، وخوفاً من غضبه...

فكأن العقل مصنوع لممارسة الخضوع والتنازل عن الشخصية الذاتية))

(3) وعليك أن تعلم أن كل هذه الاستنتاجات هي حالة وصفية مجردة يلقي الدكتور ما شاء منها على من شاء من الأطراف، دون أن يهتم (بعقل المتلقي) فكأنه (مصنوع لممارسة الخضوع) لهذه الفِكَر التي استحسن الدكتور بسطها على ورقات كتابه، لا تقوم على برهان، ولا تمتلك حجة، ولا تحترم حق المتلقي في الحصول على بيّنة! وعليك أن تعلم أن الدكتور تناسى كل هذا التراث الإبداعي العربي نثراً وشعراً ومثالاً وحكمة، وكل هذه المكارم والعادات، وكل هذه النقاليد والأسواق، ليجعل العرب بهائم تتبع شيخها

1، 2 - السابق ص 16

3 - نفسه ص 31 على أنه لم يصف لنا هذا الشيخ وهل كان ذا عقل ودراية لنسأله ساعتها: كيف خرج النهار من الليل، أم هو مثلهم بلا عقل ولا دراية لنسأله أيضاً عن أساسيات تميزه من بينهم! ولست أدري هل فهم الدكتور كلام محمد بن الوليد الطرطوشي عن منافع السلطان على وجهه ثم قلبه متعمداً ليصل إلى نتيجة قررها قبل الكتابة! أم إنه فهم الكلام على غير ما وضع له - على شديد وضوح المقصود منه - ثم رأى في ذلك ما يؤكد صدق رؤيته لمقام شيخ القبيلة! ولكنني أريد أن أبين هنا أن الطرطوشي إنما يتحدث عن السلطان كقيمة لا كشخص، واضعاً موازنة عقلية بين منافع قيام السلطة ومضار استغلال بعض السلاطين لمناصبهم، أي بين ترك الناس هملاً بلا ضابط أو ضبط أمور الحياة في جوانبها المختلفة بسلطان قد يجور، ليصل الطرطوشي في النهاية إلى استخلاص أن وجود السلطة نافع كالمطر وإن آذى ذلك المطر المسافر أو تداعى بسببه بنيان، ونافع مثل الرياح اللواقح والهواء الذي يحمل (رواحاً للعباد يتنسمون منها) وقد تضر بعض الناس في برهم وبحرهم، ونافع مثل الشتاء والصيف والليل والنهار بكل مافيها من منافع وما تجلبه على البعض من مضار! الذي أدريه أن الدكتور أراد أن يجعل ما تقدم تصويراً يبين أن العرب ينظرون للسلطان - الشخص وليس السلطة - على أنه هو ليلهم ونهارهم وشمسهم ومطرهم فهو يقول إن : (شيخ القبيلة يصير رمزاً للحياض هو والماء صورتان متطابقتان، هو أيضاً صورة للشمس والقمر، وفوق ذلك للبحر يتبخر ماءً في سحابات قبيلته يعود إليها مطراً)!

(1) وعلى ذلك فهو يظن أنهم كانوا يرون (السلطان مركز كل نفع عام ومركز الرعية أو القبيلة) والفرق أنه يتحدث عن شخوص في حين يتحدث الطرطوشي عن مكانة ومعنى! ومع كل تلك المركزية التي رآها فما تزال حتى التحالفات التي ساوى فيها بين (تحالف كندة وتنوخ) و(حلف الفضول) على ما بينهما من فروق لم يدركها الدكتور..

مع كل ذلك فهو مازال يرى أن تلك التحالفات (لم تكن لها أرض ذات حدود نهائية)! وبعد كل تلك الفرضيات الخاطئة..

بل بسببها نراه يستنتج أن (هذ النمط من الحياة عبر آلاف السنين شكل بنية أساسية للعقل - النمط الشرقي - أو الجنوبي - الصحراوي - ينعكس في

1 - نفسه ص 22 نظام للحياة شديد البعد عن النظام الغربي المعاصر) وهذا هو بيت قصيد الدكتور! وهكذا يتحدث الدكتور عن ولاء الفرد لشيخ القبيلة لا للقبيلة، ولاء يعني ما يظنه علامة عبودبة، وظلال مذلة!..

ولاء يعبر عن استسلام لا فعل معه، وانقياد لا إرادة فيه! وكأن الدكتور أراد أن يغيّب عنا المفاهيم الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار! وكأنه أراد أن ننسى لكي نصدق ادعاءه كل ذلك التراث الشعري الذي خلّد الولاء للقبيلة دون تسمية شيخ، أو ذكر قائد! وكأن الدكتور لم يقف كما وقفنا على ظواهر إيمان الأفراد بوحدة القبيلة! وكأنه لم يدرك قيمة انخراط الأفراد في معارك متصلة لنصرة فرد من أفراد القبيلة! وكأن الدكتور لم يقف على شواهد شعرية سارت بها الركبان من مثل: عليها الليوث الغرّ من آل مازنٍ ليوث طعان عند كل طعان إذا استُنجِدوا لم يسألوا من دعاهم لأية حرب أم بأي مكان ومثل حدبت علي بطون ضبة كله إن ظالماً فيهم وإن مظلوماً ومثل أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد إلى ضحى الغد فلما عصوني كنت منهم وقد أرى غوايتهم وأنني غير مهتد وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد ومثل نعطي العشيرة حقها وحقيقها فيها، وتغفر ذنبها وتسود وإذا تحملنا العشيرة ثقلهاقمنا به، وإذا تعود نعود من الواضح في كل ما تقدم أن الولاء للعشيرة، وأن الاحترام لها..

لا ذكر هنا للفرد/ الشيخ ولعل من أوضح الأمثلة قول قريط العنبري لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا إذاً لقام بنصري معشرٌ خُشُنٌ عند الحفيظة إنْ ذو لوثةٍ لانا قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه لهمطاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا إنها القبيلة لا الشيخ.. المعشر الخشن لا الفرد الرمز..إنهم القوم زرافات ووحدانا..!

- أبها M425a@maktoob.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة