الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 18th July,2005 العدد : 115

الأثنين 12 ,جمادى الثانية 1426

الزمان وعلاقته بالمكان
فلو طار جبريل بقية عمره
من الدهر ما استطاع الخروج من الدهر
(أبوالعلاء)
نحن جميعنا أبناء الزمان، وينبغي أن لا ننسى أن الزمان يلتهم أبناءه
روي بورتر
في فيزياء أرسطو، كما نقلها مفكرو العصور الوسطى، إن مفهوم الزمان مقياس أو وظيفة الحركة. والزمان متعلق بالحركات المادية الفعلية، أي متعلق بالصيرورة. وعلى هذا الأساس اعتبر كبعد كلي منفصل عن مضمونه الفيزيائي، أي منفصل عن المكان. وفكرة وجود الزمان المطلق والكون المطلق لاقت قبولاً واسعاً لدى معظم العلماء، لأنها تنسجم مع ما يراه الناس وصفاً صادقاً للعالم الطبيعي. إلا أن هناك قلة قليلة لم تقبل بهذا المفهوم عن الزمان والمكان، وبينت أن ليس لأحدهم وجود منفصل بذاته. فكما أن الحب أو البغضاء لا وجود منفصل لهما، بل لابد من وجود شخصين يشعران بالحب أو بالبغضاء، كذلك المكان لا يوجد بدون موجودات. أما الزمان فهو ترتيب للحوادث أو للموجودات المشتركة وليس كياناً مستقلاً بذاته.
ولأن الزمان عميق الصلة مع جميع العقائد والفلسفات، ولأنه الأساس في تشكيل خبرتنا عن العالم، فأية محاولة غير بارعة للتعامل معه لابد أن تصطدم بكثير من الشكوك والاعتراضات. وهكذا بدا أن الصراع بين من يقول إن الزمان والمكان منفصلان وبين من يقول بالعلاقة المشتركة بينهما، سيبقى مستمراً دون أن يستطيع أحد حسمه. لكن القرن العشرين الذي يعتبر أشد مراحل العلم تألقاً وبهاء، أكد من خلال الفيزياء النسبية على ارتباطيهما بشكل لا يفصم عراه.
عندما كان آينشتاين عائداً من عمله في مكتب براءة الاختراع في سويسره مستقلاً سيارة أجرة، لم يكن مشهوراً بعد، حانت منه التفاتة إلى الساعة المنصوبة في أعلى برج الكنيسة. تخيل آينشتاين لو أن سرعة السيارة التي يستقلها ازدادت حتى بلغت سرعة الضوء، فسيبدو له حينها عقرب الثواني في ساعة الكنيسة واقفاً. عندها تأكد له أن الزمن ليس مطلقاً، بل يزداد تباطؤه في الجمل المتحركة طرداً مع ازدياد سرعتها.
قوة القالة هي الكابح الحقيقي لحركة الزمان، وكلما كانت شديدة كلما ازداد تباطؤ الزمان. عندما تزيد قوة الثقالة عن قيمة حرجة معينة، كما هي عليه في حالة الثقب الأسود، يتوقف الزمان تماماً، فلو راقبت ثقباً أسوداً من سطح الأرض فسيبدو ساكناً، في الوقت الذي يكون الضوء قد وقع في قبضته. يذكرني هذا المشهد الكوني بالشاعر العربي قيس بن الملوح حين أحس بوطأة الزمان، فراح يعبر عنه بملامسة إشراق نادرة للغاية:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
سكون الدهر، يعني توقف حركة الزمان. وانقطاع العلاقة المشتركة مع من يهوى يعني الانفصال عن المكان، وهو أمر مخالف لطبيعة الأشياء. وهكذا، فالشخصية الإنسانية مبنية بقوة على الذاكرة والخبرات الطويلة. ليس كافياً أن تقول بأنك موجود في هذه اللحظة وحسب، بل حتى تحافظ على وجودك المستقل بذاته، فلابد من أن تستمر معك تجاربك وخبراتك ضمن هويتك المميزة، ألا وهي الذاكرة (الزمان متحد مع المكان). هذه العلاقة المشتركة نجدها واضحة في هذا النموذج من الشعر الأندلسي الرقيق:
جادك الغيث إذا الغيث هما
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلماً
في الكرى أو خلسة المختلس
ولعمري، لئن كان علماء القرن العشرين قد اكتشفوا هذه العلاقة بين الزمان والمكان من جهة، ونسبتيهما من جهة ثانية، فإن حدس الأدباء والشعراء كان قد سبقهم إلى ذلك بكثير. ولعل الأديب اندرو مارفل أحس بكابوس الزمن يلاحقه بقوة، فعبر عن ذلك بشكل رائع:
أسمع دائماً وراء ظهري مركبة الزمان المجنحة تسرع عن كثب.


د. جهاد ملحم

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved