الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 18th July,2005 العدد : 115

الأثنين 12 ,جمادى الثانية 1426

قصة قصيرة
الهرم المقلوب
صالح الصقعبي
للمدينة نكهة تختلف عن الريف.. استنتاج سخيف لم احتاج الى الكثير من الوقت لفهمه والتمشي بموجبه كما يرد في الأوامر الإدارية الرسمية عادة.
ولعل من مقومات وركائز تلك النكهة التنكر لبعض العادات ونزع القدسية عنها وجعلها في العراء تقاسي موجات البرد النجدي القارص.. المدينة تقول في مقدمة دستورها: إن المقيم هنا يجب أن يطوع حياته الخاصة لخدمة عمله وليس العكس.. ماذا يعني هذا ؟!
ما أقسى هذه المدينة.. أيمكن ان يتحول الفرد منا الى آلة تعمل وتعمل وعندما ترتاح فللصيانة فقط.. فهذا ما فجر رأس صاحبي وجعله ينتهك حرمات ودستور المدينة ويعزف مقطوعته الغجرية على باب منزلي مستخدما كل ما لديه من وسائل؛ فيده اليمنى تسمرت على (جرس الباب) والأخرى تتفنن بالقرع على الباب.. كان الوقت متأخرا..
غداً عمل.. كل من في المنزل قد آوى الى فراشه.. أفاق الجميع، أخذوا يتسابقون على الباب (الله يجب العواقب سليمة.. الله يستر.. عسى خير) هكذا كانت تردد زوجتي.. أما أنا فأخذت أردد آداب الزيارة وأنا في سريري وضرورة الاتصال المسبق عبر وسيلة اتصال وما أكثرها قبل اقتحام بيوت الناس في مثل هذا الوقت.
لم يفتني وأنا أتلو تلك البيانات ان اوجه الاتهام لأحد الأبناء وأؤكد ان الطارق أحد رفاقه.. لم أكمل ما نويت قوله حتى سمعت ابني يرحب بالقادم يا هلال ابو سليمان.. سلامات اقلط.. عسى ما شر.. الوالد موجود؟ تفضل.. لم يكن هناك ترابط منطقي بين ما تسمعه أذناي.. ما هذا الاضطراب الواضح في كلمات ابني؟ تركت السرير.. ارتديت ملابسي.. قبل خروجي من الغرفة واذا بابني يطرق الباب فتحت الباب مباشرة.. كان شاحبا زائغ البصر.. سألته عن السب عبر نظرة سددتها الى عينيه.. أجاب على الفور ابو سليمان يبه منهار.. يقول يبيك.. وش السالفة؟ ما ادري رح شفه بالمجلس.. بسرعة متناهية كنت أمام أبو سليمان.
عينان جاحظتان ووجه أصفر.. يداه ترتعشان والعرق يتصبب من جبينه.. الشعر الأبيض أخذ يحتل مناطق كبيرة من ذقنه ورأسه.. منذ أكثر من عشر أعوام لم أر أبو سليمان.. كان من أعز أصدقائي ولكن فجأة تعارضه وتضاده نظرتنا للحياة.. كان نموذجياً.. مثالياً.. يقرأ النص.. يحفظه.. يطبقه بحرفية ودقة متناهية.
حاولت أن أسلم عليه واعبر عن شوقي لرؤيته رغم كل ما حصل من اتهامات وجهها لي في أيام غابرة.. ورغم اقتحامه منزلي في مثل هذه الساعة المتأخرة وبهذه الطريقة.. حدق في وجهي.. وأخذت عيناه تتنافسان في كمية الدموع المنهمرة.. حاولت ان اهدئ من روعه وأساله عن السبب،. كررت المحاولة ولكن عندما يريد ان يتكلم يحس بفقده للأحرف والجمل رغم تواجدها في فمه.. وعندما الححت عليه بالسؤال مذكرا إياه باختيار الوقت غير المناسب للزيارة وارتباطي بعمل غدا قال: يا صديقي.. ما أبعدني عنك طيلة هذه الفترة اعتقادي بصحة وضع الهرم لكوني يومها عجزت عن استيعاب صورتي عندما استبدل رأسي بقدمي واعتقدت حينها انك مأجور او مجنون. كان تصنيفا قاصرا ومستفزاً.. مأجورا او مجنونا؟ كيف يتوهم هذا المثقل بالأوهام عني.. يدخل منزلي وبهذه الطريقة ويتهمني بهذه التهم بعد غياب دام أكثر من عشرة أعوام؟ ترى ماذا أعمل به؟!
لم يدعني ان اضع بنود خطتي فبادرني يا أخي.. اليوم.. وفي هذه اللحظة بالتحديد اقر واعترف بأن الهرم مقلوب.. واعقب هذا الاعتراف بالعديد من الآهات.. فانهمرت الدموع ولم تتوقف من مقلتي ابو سليمان.. ولمعرفتي المتجذرة بهذه الشخصية فإني استطيع ان اقيم مثل هذا الاعتراف وافهم الطريقة التي اقتحم بها بيتي، ولكن السؤال الدائر الحائر الملح في طلب الاجابة ترى ما هو الموقف الذي جعل ابو سليمان يصل الى هذه الحالة.. لم احاول ان اوجه سهامي اليه في مثل هذه اللحظة وتركته يكمل ما قد بدأ.. وهذا ما دعاه الى تكفيف دموعه واستعادة مهارات صوته عبر العديد من التجارب المصحوبة بالكحة المفتعلة.. وعندما وجد ان ردود الفعل لدي قد تبلدت بانتظار ذاك الذي اقنع ابو سليمان صاحب النظرة التقليدية والمصدق بكل ما يحدث أمامه.. الكاره للتشكيك او التساؤل او استخدام اي وسيلة للتأكد مما هو مطروح.. فقد كان يؤمن بعكس ذلك.. وان مثل هذه الشكوك امراض من صنع الجن او السحر.. بعد قناعته بغياب كل ما كان يفرقنا تنهدت.. وقال: يا صديقي عملت ربع قرن من عمري بالخاص وتفان.. ورغم هذا لم اجد ثمن ما يجفف عرقي.. وذات يوم اطللت على مسيرتي الاسرية اطلالة متأمل.. ووجدت ان هناك احتياج واضح الى زوجة ثانية لكي لا أقع في مستنقع الحرام.. وقد كان وتم بحمد الله زواجي الثاني في ليلة ربيعية جلجل فيها الفرح بكل معانيه وبعد ثلاثة اشهر من زواجي تم حصولي على أول ترقية منذ عملي في هذه المؤسسة قبل عشرين عاما، فرحت كثيرا وأقمت وليمة كبيرة.. دعوت لها كبار المسؤولين وبطبيعية الحال قامت زوجتي الثانية بدعوة كبار المسؤولات وهن حرم كبار المسؤولين. بعد هذه الحفلة بأيام تم تسليمي قرار ترقيتي الجديدة.. ابتسم ابو سليمان بشكل غريب واخذ يرقص شفتيه بطريقة جعلتني اتساءل عن سر هذه الترقية.. لم يمهلني كثيرا.. بل اردف قائلاً: وبعدها باسابيع اصبحت مدير الإدارة.. وهذا ما جعلني افقد عقلي وابحث عنه لدى اصدقائي مثلك.. لقد قدمت خلال العشرين عاما الماضية اضعاف ما قدمته خلال الأشهر الثلاثة.. ورغم هذا يمكن ان تكون ثمار يوم تعادل محصول عام؟ في اي ميزان واي عرف واي دستور هذا يا صديقي!! ما فجر عقلي وجعلني اعزف الألحان على بابك عندما تعرف السبب الحقيقي لانهمار الترقيات!! لقد عرفت بأن زوجتي الجديدة ابنة اخت سعادة المدير العام من الرضاعة.. وهذا سر اختصار السنة بيوم وهذا تحديدا ما لم اكن اصدقه في اتهاماتك المتواصلة.. وتحليلاتك الانتهازية.. وما دفعني الى اقتحام منزلك في هذه اللحظة هو اعترافي المعلن بصحة مقولتك وغباء نموذجيتي.. نعم وألف نعم.. الهرم مقلوب.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
مداخلات
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved