الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 18th August,2003 العدد : 25

الأثنين 20 ,جمادى الآخر 1424

عن الصراع بين الموضة والهوية
ثقافة الشعوب تمارس فن معايشة الحياة والمستقبل هو المعلم الأول
عبد الله السمطي

1
تمتلك الشعوب مخزوناً كبيراً من العادات والتقاليد والموروث الحكائي الشفاهي وغير الشفاهي، إن تواتر هذا المخزون واشتغاله الدائب على الذاكرة الإنسانية إنما يعطي حضوراً جلياً للزمن الماضي الذي يخايل، ويفتن. الماضي هو جملة من ركام أزمنة كانت حاضرة ومستقبلة هي الآن صَفَتْ، وتقلصت إلى هذه الفولكلوريات البشرية كل الماضي تاريخاً، وأحداثاً، ووقائع وشخوصاً، وأقوالاً وأساطير، يعجن في محرقة الزمان، ليتخلص من صغائره، وتبقى في الذاكرة فقط ما تبقيه الشعوب، ومايكنه الإنسان في الوجدان الفردي والجمعي معاً.
هذه الذاكرة وهذا المخزون يمثلان نوعاً من الهوية هوية كل شعب ماضيه، وتراثه، ولغته، وأيضاً طريقة تفكيره وتكيفه مع الحياة.
2
إن رحلة الإنسان مع الحياة، شاقة ومؤلمة، ولن يصل الإنسان إلى غاياته لأن طرق التفكير تتغير، والاشتغال العقلي لا يقف عند حد.
انتقل الإنسان من صراعه مع الطبيعة، وتأكيده على وجوده على هذه الأرض، انتقل من سكنى الكهوف والأشجار إلى سكنى السهول والوديان، ومن العصور الرعوية والزراعية إلى عصر الصناعة والبخار والطاقة والذرة. اليوم يبدي الإنسان قدراً كبيراً من الجهد الخلاق للتكيف مع المستقبل. لذا فإنه يصنع ويفكر فيما يكيف حياته المقبلة. إن الصعود إلى الكواكب الأخرى وإلى القمر، وثورة الاتصالات وعالم الانترنت، وتصغير الأرض إلى أقصى مايمكن لم يغض بالإنسان إلى السكون والدعة.
إنه يواصل تكيفه مع المستقبل بمزيد من الابتكارات ومزيد من مخايلة الغد، هذا كله هل أفضى به إلى القطيعة مع هويته؟ إن فكرة هذه المقالة تبحث في طرفي: الموضة والهوية.
الموضة باعتبارها نظاماً يتكيف به الإنسان مع مستقبله وتغير به الشعوب من عاداتها والهوية باعتبارها النظام الثابت الذي يجذب الشعوب إلى ماضيها وإرثها التليد.
بدئياً هل الموضة طريقة لابتكار المتغير، وماهي عناصرها وأنماطها؟ وهل تمثل طرف نقيض أمام مفهوم الهوية؟
تتجلى الموضة في الأزياء، وقصات الشعر، واختيار الملابس والأحذية، وفي طرق الطهي وتقديم الأطعمة، وفي المشي، والرقص، وحركة الجسد، وفي طرق الغناء، أو فيما يمكن تعريفه ب «فن معايشة الحياة».
إن الأزياء تتغير أساليب تصميمها، تتغير سعة وضيقاً، وطولاً وقصراً، وشكلاً ولوناً، تبعاً للرجل أو المرأة. وإذا كان زي الرجل أكثر وقاراً سواء كان جلباباً، أم بدلة، أم زياً رسمياً، فإن زي المرأة على الرغم من حشمته لدى بعض الشعوب يكون أكثر دلالاً، وأحياناً خلاعة، أو فتنة ومجوناً.
تدل الأزياء على الهوية، وهي تمثل نوعاً من الدلالة على ثقافات معينة لدى الشعوب تتحكم في تصاميمها البيئة، والمناخ، والعادات كما تتحكم فيها أيضاً نظرة الشعوب للأزياء وما تمثله من قيم دينية أو وطنية أو تاريخية. فهناك شعوب ترى ان جسم الإنسان يجب ان يغطى كاملاً، وهناك شعوب ترى ان قطعة صغيرة من القماش تكفي لتغطية الجزء الحساس من الجسم للدلالة على الهوية كبعض الشعوب الافريقية مثلاً، وهناك في بعض القبائل الافريقية من يرى ان الجسم الإنساني كله بمثابة وجه لذا لايجب تغطية أي جزء منه.
إن الأزياء تحددها الثقافة، وتغير تصاميمها عبر الموضة قد «يتناص» إذا صحت الاستعارة مع الموروث والأزياء الموروثة وقد يصنع نوعاً من القطيعة معها. وفي الغرب تركض الموضة ركضاً دون أي اعتبار للماضي. يصبح المعلم الأول هو المستقبل. خطوط الموضة هي خطوط فكر المصمم، وأسلوبه في النظر لحركة الحياة وإيقاعها، وانسجامها، وهارمونيتها هو مايحفزه على تقديم أفكاره عبر الأقمشة المختلفة التي تناسب النوعين، خاصة المرأة، يصبح هنا للانتيل، والساتان، والأورجانزا، والكريب والشوفون والقطن والصوف لها ثقافاتها ودلالاتها عبر الفصول. وبيوت الأزياء العالمية هي محط أنظار الشعوب، إن هناك قنوات فضائية متخصصة في الأزياء ويحمل موقع www.style.com أكثر من 250 بيتاً للأزياء العالمية تتحكم في مصير الأزياء في العالم من فستان السهرة حتى ثياب البحر.
ولأننا نحن شعوب العالم الثالث من فصيلة المقلدين الدائمين فإن ما تطرحه هذه البيوت يتم تلقيه على أنه يمثل أحدث خطوط الموضة، وبالتالي يجب مسايرته، أو النسيج على مواله، وإلا فإن تهمة «التخلف» ستصبح ملاحقة لمن لاينهض بذلك.
لكن ذلك سوف يصطدم بالتأكيد بمسألة «الهوية» بالماضي، بالتقاليد، بالحاضر، بالموروث، هذا الاصطدام تنجم عنه عدة دلالات يمكن إيجازها في التالي:
أولاً: هل متابعة الموضة العالمية وهل احتذاؤها يقلص إلى حد ما من فكرة الهوية؟
ثانياً: تتدرج متابعة الموضة بين طبقات الشعوب وفئاتها المختلفة فالفلاح في أرضه أو العامل في مصنعه والبيئات الفقيرة لاتعنيها من قريب أو من بعيد مقولة «الموضة» فهل هذه الفئات هي الأحرص على الهوية؟
ثالثاً: إن الجدل سيظل قائماً بين المقولتين، باعتبار ان الموضة لون من التخطي الدائب للأمام، فميا الهوية تمثل مجموعة العناصر الثقافية والحضارية والوطنية للشعوب. هذا الجدل ربما هو وجه حيوي لحضور المقولتين في المشهد الإنساني بشكل قوي ومباشر.
رابعاً: إن ظهور الموضة في الغرب تحديداً لم يلغ تماما مسألة الهوية، بل حدث تطور لها، ومازالت أكثر الشعوب الغربية تحافظ على تقاليدها خاصة في المناطق الريفية.
3
إن النظر إلى هذه العلاقة المتوترة بين المقولتين لدى شعوب العالم الثالث أمر له مبرراته ووجاهته، هذه الشعوب بسطوة الماضي والموروث لاتريد التحرك للأمام، وفي تصورها أن الهوية هي مجموعة مقولات يتم ترديدها هنا وهناك ومن العجب ان ما يصبح محرماً لدى هذه الشعوب في وقت من الأوقات يصبح «حلالاً» بعد ذلك والنظر إلى تاريخنا العربي مثلا في القرن العشرين يدل على أن محرمات كثيرة تم تحليلها في كل مجالات الحياة خاصة فيما يتعلق بأدوات التكنولوجيا وأيضاً الموضة.
إن مظاهر الموضة الأخرى التي ذكرتها سالفا تمثل أيضاً حالة من حالات التقليد والصرعة لدى الشعوب ولعل «قصات الشعر» مثلا تتغير بكثرة لدى نجوم الفن والغناء وكرة القدم، ويتم انتشارها بين الشباب بشكل كثيف تتغير موضة الشعر بين القصير والطويل، وشكل التسريحة، ولون الشعر من الأسود إلى الأصفر إلى الذهبي إلى الأبيض والأحمر بيد أن هذه الموضات ليست ذات أثر كبير في مسألة الهوية، لأنها عرضة للتغيرات السريعة، ولا يمارسها سوى الشباب في الفئة العمرية 15:30 وقد يتصابى البعض فتمتد حتى الستين عاماً.
إن علينا ألا نقلق كثيراً من مسألة «الموضة» فهذه من طبيعة البشر، وبحثه عن مسألة التميز والاختلاف، ألا يشعر بالضيق مثلا ملاحظة شخصين عابرين في الشارع العام وهما يرتديان زياً متشابهاً؟ إن كليهما لم يقصد ذلك لكن هذا التشابه الذي يفضي إلى «الضيق» يدفعهما بسرعة إلى التفكير في أزياء أخرى غير مألوفة أو إلى البحث عن «موضة» جديدة.
إن الهوية عنصر ثابت لدى الشعوب، في طريقة تفكيرها، وفي وصاياها التي تتناسل مع السلالة، من هنا لا خوف أبداً من الموضة، ولا خوف من مجيئها شرقاً أو غرباً، المهم ان يتم تكييفها تبعاً لما يتناسب ويتلاءم مع ثقافتنا، فلكل شعب ثقافته ومن حقه أن يعدل أو يضيف أو ينصرف كليا عما يفد إليه، الموضة والهوية وجهان مختلفان لكنهما طرفا الحياة في معايشة الإنسان لها، وتوقه الدائب إلى التغيير.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved