الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 18th August,2003 العدد : 25

الأثنين 20 ,جمادى الآخر 1424

الذاكرة الوجدانية
قراءة في رواية ( أيام معها )
حسين المناصرة

«لعل عنوان هذه الرواية يذكر الكثير من جيلي بعنوان الرواية الرومانسية الرائعة التي كتبتها الروائية السورية المبدعة كوليت خوري، وأكملت نشرها في عام 1979م وعنوانها: أيام معه ... وقد أرغدت المشاعر العربية حينذاك». «
، «الرواية، ص 7».
يمكن تصنيف رواية «أيام معها» لعبدالله الجفري على أساس أنها رواية وجدانية، أي أنها تنشئ بنيتها السردية في سياق شخصيتي رجل وامرأة، بينهما علاقة عاطفية وجدانية محمومة، هي في الغالب علاقة موتورة أو مأزومة، فتغدو لغة معاناة الحب بين البطلين محور الرواية من بدايتها إلى نهايتها، وهنا لا تركز اللغة السردية على الأحداث والزمكانية وطرائق العرض وبناء هيكل الرواية... بقدر تركيزها على المشارع والمنولوجات الداخلية في لغة عاطفية مأزومة ومحمومة، بحيث تبدو نفسيتا البطلين قلقتين بما يعتريهما من ذكريات الماضي، وغربة تصرفاتهما في الواقع، ورؤى ضبابية عن العلاقة بينهما في المستقبل!!
إذن، نجد اللغة السردية في الرواية لغة شاعرية وجدانية مليئة بالعذاب والعتاب ومرارة الحياة في القطيعة والآمال في الوصل.. لذلك لا ينشئ السارد روايته في سياق حركية سردية تاريخية، أو دراما سردية هرمية، وإنما يملأها بتداعيات لغوية محمومة عاطفياً، وقلقة نفسياً، ومثقفة وجدانياً، فتغدو البنية الروائية على هذا النحو تدفقات نفسية عند كل منهما، وأحياناً تتحول هذه التدفقات الوجدانية الى رسائل متأججة عاطفياً.. ومن ثم يقل الحديث عن قضايا الواقع غير الذاتية.
ولأن الرواية الوجدانية عموماً تغيّب تفعيل الزمكانية، والأحداث، والتعددية في الأصوات والشخصيات.. فإنها تعاني على الأغلب من ترهل لغوي، وصفحات فضفاضة من التداعيات غير المبررة فنياً، من هنا يمكن قراءة صفحتين من أية رواية وجدانية لتكونا دالتين على خطابها الوجداني الذي يحمل ذاكرة المأساة الذاتية بما فيها من المعاناة من العلاقة بالشريك الآخر، على طريقة مجانين العشق في التراث!!
لا شك ان هذه النوعية من الروايات تغري المراهقين، فتلاقي انتشاراً واضحاً بين طبقة القراء العاديين، وبالتحديد بين فئات الشباب منهم بسبب أنها تغرق ذاتها في الموضوع العاطفي الذي هو الأساس في دعوة القراء الى الإقبال عليها، وغالباً ما تكون هذه الدعوة واضحة في العنوان، فيكفي ان يشير عنوان «أيام معها» الى أن الموضوع هو بكل تأكيد موضوع عاطفي!!.
في ضوء ما سبق، تقدم رواية «أيام معها» حكاية محدودة، وهي حكاية «سارة» التي انفصلت عن زوجها بعد رحلة زوجية غير موفقة، وعادت، وهي في نهاية الثلاثينيات من عمرها، الى إحياء العلاقة العاطفية القديمة بينها وبين الفنان «فارس» الذي كانت تربطه بها علاقة حب مجنونة قبل زواجها.. من هنا تكون العلاقة بين سارة وفارس محكومة بذكريات الحب في الماضي من جهة، وأيضا بالحاضر الذي يتشكل من خلال العودة الى إرث الماضي من أجل بناء تصور للعلاقة مستقبلاً!!.
تبدو شخصية «سارة» شخصية نرجسية مغرقة في الذاتية، فهي شخصية مأزومة من خلال علاقتها الزوجية التي فرضها عليها أهلها، فوجدت نفسها إزاء شريك لم تقبله ولم ترفضه، إذ ليس بإمكان المرأة ان تفعل شيئا في «مجتمعها النسائي المغمى عليه ص9 » في تصورها. فهي عندما «نضجت قليلاً بعد نهدة العشرين.. بادر أهلها الى تكبيلها بلا استئذان من عقلها وبلا استفتاء لخفقات قلبها.. فزوجوها، لأنه لا بد لها من أن تتزوج، أو هكذا بنات العائلات والبنات الجميلات! «ص27» كما تقول.
قررت «سارة» بعد طلاقها، أن تكون امرأة قوية، مثقفة بقراءاتها الكثيرة، ترفض ان تكون ملكية لأي رجل، وترغب في ان تكون مستفزة عفوية مشاكسة، خاصة في الحب مع فارس، وتتمرد على المجتمع الذي يضيق عليها الخناق، بوصفه مجتمعا يخلو من المنطق، تصفه بقولها: «خرجت من مجتمع.. ليست مشكلته الانغلاق، أو المحافظة.. بل مشكلته الأساسية تكمن في تفريغه من المنطق، ومن الحرية الشخصية، ومن عفوية التصرف من دون اعتداء على حريات الآخرين، ومن حوافز الإبداع.. «ص36».
في نهاية المطاف تتعقد حياتها أكثر، فتعيش في الغرب، وتغدو سيدة أعمال، تحرص دوما على تأكيد حبها لفارس من خلال الهاتف والرسائل.
يمثل «فارس» من جهته الفنان الذي يبحر في «بحر الكلمة»، يعيش حاضره المتشقق بعطش الروح، وصمت الفرح، وتشوّه رغائب الإنسان، وتفريغ الزمان من الحب «ص13»، لذلك تجيء عودة «سارة» إليه، وهو في سن الكهولة عودة «امرأة .. كان يحياها: حلماً، ويحلم بها: حياة «ص15».
تبدو مشكلته انه أحب فتاة مثقفة جميلة، تبتعد عنه بقدر اقترابه منها، لذلك يتضاعف عذابه بسبب ابتعادها عنه وهروبها منه، لأنها لا تريد لنفسها ان تكون أنثى في حياة رجل، وحتى وإن كانت تحبه، فيغدو معذباً بهذا الحب.. لكن هذا الحب في الوقت نفسه يمثل بالنسبة له الحياة الحقيقية على الرغم من سرابية من يحب، يقول في هذا السياق: «هي التي فرضت عليه ان يكون تواصله معها: تخيلاً وأصداء وتحديقاً في البعيد السراب، وتقهقراً دائماً الى الزمن الأحلى/ الماضي.. حتى ولو كان الماضي هو يوم أمس القريب. صار يحلم بها... بالتخيل وبالتحديق في السراب. صارت رفقته لها فوق وسادة أحلام اليقظة لا النوم.. هي هذه المرأة التي رفضت منه تعريفها بكلمة: «أنثى». فهل هي ليست أنثى. «128».
إذن، تتأكد إشكالية الرواية في تعميق الذاكرة الوجدانية بين بطلي الرواية «سارة وفارس»، وهذه الذاكرة بدورها تجعل اللغة في الرواية لغة نزقة، فيها تكرار للحالة الوجدانية، وفيها ثبوت في حركية السرد، من أجل تأكيد عمق العلاقة بين البطلين في إطار التنافر والتجاذب والبحث عن صيغة مشتركة في عالم الاغتراب، وهذه الصيغة المشتركة هي التي تدفعنا الى البحث عن نهاية ما لهذه العلاقة بينهما، بعد ان اتسمت في كثير من مراحلها بالفراق والقطيعة والصمت، فما هي هذه النهاية؟ هل ستغير سارة وجهة نظرها التي ترفض ان تكون تابعة لرجل، حتى وإن كانت هذه التبعية باسم الحب؟ وما هو موقف فارس في غربته، وتجواله، وتأكيده على أنه لم يكن ينتظر امرأة غيرها؟.
تبدو عناوين الفصول دالة على الحالة الوجدانية التي يشعر بها كل منهما، على الأقل في سياق زمن الرواية الفعلي الذي يبدأ من لحظة طلاق سارة، الى لحظة قرارها النفسي بأن الحب بينهما غدا جزءا من «قرف الحياة» الذي تعيشه في جوانب كثيرة مختلفة.
لنتأمل عناوين فصول الرواية: هي ... وهو، عودة الحلم، المثقفة، العودة المفاجئة، قمة المعاناة، السلام مع النفس، لؤلؤة القلب، تفجيرات الإرهاب، إغماءة.. وتقاعد عاطفي، يعيش ولا يحيا، مواجهة ما سيأتي، غريب برغم القرب، أنفلونزا أمريكية استعمارية، اللحظة التي تبكينا، القرفانة، أجراس في حياتها، التأمل جوانيا.
لا شك ان هذه العناوين دالة على عمق الدرجة الوجدانية في هذه الرواية، نستثني من ذلك بعض اللفتات المتناثرة في الرواية التي يدين من خلالهما الكاتب عمليات التفجير في العليا، والدور الأمريكي في معاهدة السلام بين العرب واسرائيل، والصراع بين الأجيال... فيما عدا هذه الفتافيت التي تبدو أنها مقحمة في سياق الرواية، نكاد نقول: إن رواية «أيام معها» رواية وجدانية، تخص البطلين فقط، في سياق قضيتهما العاطفية على وجه التحديد !!
يجد فارس نفسه في نهاية المطاف إزاء هذه العلاقة العاطفية يحب امرأة ترفض ان تكون «أنثى» وهي بالتالي تفهم الحب على أساس أنها تحب من يحبها، فتغدو بذلك امرأة قاسية، بل «سادية»، الى حد أنها غدت تقرف من حبه، كما تقرف من أشياء كثيرة في حياتها: «تتقصد في تعاملها معه: إحباطه أو كبحه عنها، وامتصاص لحظة فرحه بها كإسفنجة، وأحياناً يشعر أنها ترمي الى تضئيله «169».
لما صارت سارة «مثل الدنيا.. متقلبة، وباردة، مقرفة..«163» كان على فارس أن يخرج من حياتها، لذلك نجده في نهاية الرواية ينهي هذه العلاقة العاطفية المجنونة من جهته، والباردة من جهتها، ويصل الى اقتناع انه أحب المرأة التي تعذبه، ومن ثم أحب المرأة التي كان يجب عليه ألا يحبها، لأنها مثل بئر بترول، كلما نقب عنها واكتشفها بادرت الى ردم نفسها في داخله، وبالتالي يغدو خطاباً في نهاية الرواية خطاب الميلاد الجديد المتحرر من هذا الحب الأعمى إن صح هذا التعبير، يقول لها: «لم أعد ذلك العاشق الغريب الذي تسجنينه، ثم تحصدينه. ها أنذا يا معذبتي الرقيقة قد تحررت منك.. أخيراً، والى الأبد! تحررت... وربما هو: ميلاد جديد لهذا القلب الذي استعبدت أزهى سنوات عمره، وربما هو: الموت الذي يحملني الى برزخ.. ينجو فيه القلب من ساديتك معه!! «184».
لا مناص أمامنا، بعد الإطلالة على هذه الرواية، إلا تأكيد بنية الرواية الوجدانية بوصفها بنية أساسية في الرواية العربية منذ نشأتها الى اليوم. ومن ثم تبدو هذه الذاكرة الوجدانية مهمة في تأكيد عذاب شخصياتها في سياق العلاقة العاطفية، حيث يبدو هذا الحب عذاباً وآلاماً عديدة، لأنه يخضع لموروثات كثيرة، تجعل منه قرفاً أو غربة أو تقاطعاً. فالمرأة لا تريد ان تكون أنثى في حياة الرجل، الرجل لا يرى فيها سوى الأنثى في حياته.. في ضوء هذه الإشكالية يغدو الحب جزءاً من الحياة الوجدانية المشوهة في ثقافتنا العربية التي غدت بدورها أكثر تعقيداً في المأساوية عندما تختلط بالثقافة الغربية، لنصل بالتالي الى مفهوم الحب/ «القرف» عند المرأة، ومفهوم الحب / التحرر منه عند الرجل....

++
hosainma@yahoo.com

++
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved