الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 18th August,2003 العدد : 25

الأثنين 20 ,جمادى الآخر 1424

أعراف
ينابيع الذاكرة
تلويحة الأيدي المتعبة عيد وعدوان
محمد جبر الحربي

في الغرفة الأضيق من ذات البخيل، والأوسع من خيال الشعراء، على كرسي صغير على شاعر كبير بحجم فواز عيد قال لي:
اكتب
واقرأ
واستعن بالإضافة، ونحّ أحرف التشبيه!!
اكتب ما تعرف، وتشعر به وتحب
واقرأ ما لا تعرف .. تعلّم
قدمت له (صبا) كوب ماء. كان دائم العطش. كنت قد كتبت حينها (صبا تسكن السابعة).. وأهديتها إلى (بندر) الأخ الأصغر للراحل صالح العزاز، وكان في المستشفى.
قال فواز: فضاؤك جميل، وصبا جميلة، والقصيدة خطوة جميلة.
أشعل روحك بالشعر، المهم الروح.
كان حديثه عذبا ودافئاً ومشجعاً.
وكنت مندهشاً بعوالمه، وبطريقة حديثة.
كان معلماً هامساً.
وكان إذا قرأ الشعر، ينصت لنفسه، يقرأ لنفسه.. يغني لنفسه
هكذا تماماً كما يكتب الشعر.
لا فرق بين قصيدة فواز وفواز.
شاعرُ حمل بالفعل روحه على راحتيه.
وعندما سافر عائداً إلى المستشفى، ترك لي الباب مفتوحاً على عالم الشعر والأسئلة، عالم المرارة والعذوبة والجمال. وترك لي وصلاً للاستلام من إذاعة الرياض، ولم يتمكن من تحصيله مبلغاً زهيداً لشاعر كبير.. لعائلة فلسطينية كبيرة لم تعرف غير المخيم ملاذا. ولكنه كان يقيها برودة المخيم.
كنا نتهاتف، وكان حينها يكتب زاوية لليمامة تشبه عنوانها (مطر ومصابيح).
ثم جمعتنا لقاءات تفصلها السنوات، مرة في دمشق مع عبدالله الصيخان، دفعنا سيارته (الفولكس ويجن) العتيقة وازدحمنا بها، وذهبنا إلى الرائع ممدوح عدوان صاحب (أمي تطارد قاتلها) (وتلويحة الأيدي المتعبة) ونهر من الأغاني وأشجار الابداع المتنوعة:
(كنا نتجول في الصحراء
عطشى نبحثُ عن قطرة ماء
حين أتتنا طائرة الأعداء
قصفتنا قصفتنا قصفتنا
فتفجر نبع الماء)
من يستطيع أن يقول اليوم، ومن كان يستطيع قول هذا الشعر الناقد النافذ الجريء؟!
الله. أيها (المدافع عن الجنون).. يا عدوان!!
وشفاك الله كما شفيت ورويت أرواحنا العطشى عبر السنين.
بعد سنين جاء فواز إلى الرياض، إلى الوطن والأصدقاء الذين أحبهم وأحبوه. وفي شقتي المتواضعة الأوسع من ذات البخلاء قرأت له (العبسي يحاصر الذاكرة).
كان سعيداً قال: الله.. كبرت يا محمد.. قلت له: تلميذك يا أستاذ.
أصدر بعدها ديوانين: الأشياء حتى النصف، ومن فوق أنحل من أنين. ضممتهما إلى باقي أشجار حديقته: في شمسي دوار، وأعناق الجياد النافرة، المجموعة التي لم تعد لي منذ خطفتها بعد ذاك يدُ لم تحفظ العهد.
بينما خطفت الشاعر الأصيل بعد عمر من الجمال والحنين والغربة كشأن الشعراء الفلسطينيين، وكلّ فلسطيني روّض قسوة المنافي، وبنى فيها بيوتاً من الشعر، أو الكلام الجميل، وحدائق من عذابات الروح وجمالها.
خطفته يد المنون كما لامسها ذلك الشاعر الجاهلي، ولامس ربيعها.
ومع ذلك ترك لنا يداً ملوّحة عرفنا تفاصيل وخطوط كفُها النديّة التي أخذت بأيدينا إلى عطر التاريخ، وجنان الحضارة الأصيلة، وتفاصيل الخضرة المستديمة.
يدا لا تشبه الأيادي، ما زالت تلوّح لأحبابها كما كان يهمس. وتعلو كما كان يعلو:
ستعود، الأرضُ ستعود.
تركت لكم، لبقية الرحلة، أشجار برتقال، وفل، وجوري، وياسمين.
وتركت لكم تعب النوافير.
وتركت لكم مدائن الشعر، وقرى متفتحة للكلام الذي لا يشبه الكلام، لغمام الأرواح ومطر القلوب.
تركت لكم كنزاً من المحبة، ونبعاً من الطيبة.
وخبأت لكم هناك خلف أشجار اللوز وصايا المقاومة..
وأولها الحب.. أمّا ما يسرّ الصديق ويغيظ العدا فهو هناك.. فاجتهدوا في البحث عنه.
هذا، كلّ هذا، قطرةُ من نبع فواز، وسنعود لنبعه، ونبع صاحبه الكبير ممدوح عدوان كما نهلتُ منها، وعّللت.
هي ينابيعُ الذاكرة لا تتسلق الجمال، بل تستعيده علّ ظامئاً ينهل.. ولعلّ أول الظامئين أنا.


mjharbi@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved