الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 18th September,2006 العدد : 171

الأثنين 25 ,شعبان 1427

الإمام محمد عبده.. ولادة المثقف الحديث (6 - 13 )
محطة ثورة عرابي والاحتلال البريطاني
د. عبد الرزاق عيد

في هذه الفترة التي كان محمد عبده ينكب على تدريس المدنية الغربية عبر فرانسوا غيزر، ويؤسس للأخلاق المدنية عبر مسكويه، ويفتتح تاريخا جديدا مع فيلسوف التاريخانية العربية ابن خلدون، كان أستاذه الأفغاني يشده من عالم التأمل والنظر والفلسفة وعلوم التربية إلى الممارسة السياسية من خلال الانتماء إلى التنظيمات السياسية، فدخل مع أستاذه الأفغاني (الحزب الوطني الحر) الذي كان شعاره (مصر للمصريين)، أي: لا للأجانب ولا للشراكسة!
كان الوعي القومي (الوطني المصري)، قد بلغ حدا عاليا من التبلور مع ازدياد التأثير الأجنبي أو بفضله، وقد تجلى هذا الوعي في الصحافة متخذا اتجاها جديدا.
لقد فرضت الدول الأوربية رقابة مالية على مصر عندما بدا أن الخديوي إسماعيل عاجز عن إيفاء ديونه، وعندما عزل إسماعيل الأوربيين الذين احتلوا مواقع وزاوية، خلعه السلطان العثماني الذي راح ينوء بمرضه تحت نفوذ وقوة وضغوط أوربا، وكان إسماعيل قد فقد شعبيته بسبب الضرائب الفاحشة التي فرضها لدفع الفائدة عن ديونه الطائشة، ومن ثم ميله لتشديد قبضة حكمه الأوتوقراطي الاستبدادي، ولم يكن ابنه ومن خلفه أكثر شعبية، مما ساعد نمو الحركة الوطنية المصرية المعارضة التي تمثلت في تيارات ثلاث : حركة تمنح الأولوية للدفاع عن استقلال مصر بعد ازدياد نفوذ أوربا وهي تفرض إخضاعها للخديوي (الأفغاني)، وحركة تولي إحلال الحكم الدستوري محل الحكم المطلق (محمد عبده)، وحركة الضباط المصريين الذي كانوا يتطلعون للتخلص من نفوذ الضباط الأتراك والشركس (أحمد عرابي) (البرت حوراني سبق ذكره ص 141).
كان الإمام في بدايات انخراطه في العمل السياسي قريبا من النزعة الاستقلالية الراديكالية التي كان يمثلها الأستاذ فكان التحاقه بالحزب الوطني، لكن هذا الحزب سرعان ما اندمج بالحركة الشعبية وانضم مع الحزب الوطني الحر إلى العرابيين (حركة الضباط) بعد مظاهرة عابدين في 9 سبتمبر سنة 1881، فغدا قائدهم، عرابي باشا، وزيرا للحربية ورئيس الحكومة الفعلي في أوائل 1882، مما بدا للإنكليز والفرنسيين أنه بدأ يشكل خطرا، فأقدم الإنكليز على إنهاء هذه الحركة ومن ثم رمي الإسكندرية بالقنابل للسيطرة على كامل البلاد، حيث غدت مصر في أيلول 1882 دولة تحت الاحتلال الإنكليزي.
في معمعان هذا الحراك السياسي ستتبلور منظورات محمد عبده الفكرية والسياسية، إذ سيبرز وجه اختلافه عن الأفغاني في خياراتهما الاستراتيجية، (فهو عندما يدرس لا يختلف عن الأفغاني إلا في درجة الميل إلى الفلسفة... ولكن عندما يعمل بالسياسة العليا والمباشرة يبدو الفرق بينهما واضحا.... فرق المصلح عن الثوري) ولقد تبلور ذلك من خلال مساهمته في صياغة وثيقة برنامج الحزب الوطني بتحريض من (ولفرد بلنت) صديق الإمام والحركة الوطنية، ليحملها الأخير لرئيس وزراء بريطانيا (غلادستون) في محاولة لوقف التوتر ومنع إنكلترا من السير في طريق معاداة الحركة الوطنية المصرية، إذ ان محمد عبده الذي أصبح أحد زعماء الجناح المدني للمقاومة الشعبية بدأ إحساسه الإصلاحي الدستوري التربوي التدريجي يشعره بخطورة خيار أستاذه الأفغاني، وخطورة البعد العفوي (الشعبوي) في حركة عرابي، ولذا فقد أراد أن يتأكد من كبح جماح (الشعبوية العسكرية) عند أعرابي في ضمان موافقته على بنود وثيقة برنامج الحزب الوطني فعرضه عليه فوافق، وكذلك عرضه على محمود سامي البارودي، الذي كان وزير الحرب، وضمن موافقته عليه، وسيكون لنا وقفة تحليلية خاصة مع هذا البرنامج لاحقا عند دراسة فكر الإمام السياسي، نظرا لما يكثفه هذا البرنامج من عمق البعد الدستوري في فكر محمد عبده.
وكان محمد عبده يحمل الرأي والمشاعر ذاتها نحو عرابي ومجموعته العسكرية، لكن الهجوم البريطاني كما قلنا أرغمه إلى التقرب منهم والمشاركة الفعالة في تنظيم المقاومة الشعبية، فلم تعد عقلانية المفكر المتمسك بالشرعية الدستورية لتفيد أمام التهاب المشاعر الوطنية والهيجانات الجماهيرية العاطفية التي استدرجت اعتداله بحماسها (الثوري) إذ أنه قد سبق له أن حذر عرابي من حركته، بل وشككه في شرعية طلب القوة العسكرية، بل نبه إلى أن ذلك قد يقود إلى الاحتلال: (... إن الأمة لو كانت مستعدة لمشاركته الحكومة في إدارة شؤونها لما كان لطلب ذلك بالقوة العسكرية معنى، فما يطالب به رؤساء العسكرية الآن غير مشروع لأنه ليس تصويرا لاستعداد الأمة ومطلبها، ويخشى أن يجر هذا الشغب على البلاد احتلالا أجنبيا يسجل على مسببه اللعنة إلى يوم القيامة (الأعمال الكاملة ج1 ص343).
لكن بعد هزيمة الثورة، ألقي القبض على الإمام، وذلك بعد الاحتلال البريطاني وعودة الخديوي إلى الحكم، وسجن لمدة ثلاثة شهور وعومل معاملة سيئة، إن إخفاق الثورة وانهيار الحركة الوطنية تر ك أثرا عميقا في نفسه، فقد قال محاميه البريطاني (برودلي) الذي أرسله (بلنت) للدفاع عن عرابي في محكمته: (إن عظمة محمد عبده الفكرية كانت قد حجبتها، لفترة ما غيوم الضعف المعنوي والجسدي.
فقد بدا عقله وجسده وكأن ردة الفعل المتولدة من الآمال الخائبة ونزاع اليأس قد حطمتها تحطيما لم يبق معه أي أمل في الشفاء نحن إذ نتناول فكر وسيرة الإمام، فإننا نسعى بشكل دائم لفتح حوار بين زمن الإمام وزمننا الراهن توخيا لدلالة المغزى التاريخي لسيرورة تاريخنا الحديث، فلا بد أن القارئ سيفاجأ بتكرار أسئلة الزمن العربي، وتكرار إشكاليته، وهي إشكالية العلاقة بين المثقف والعسكري، بين الشرعية الدستورية والشرعية (الثورية) التي شغلت النصف الثاني لقرن العرب العشرين، حيث شكلت الشرعية الثورية هذه امتدادا لخط الأفغاني الشعبوي: أحمد عرابي مصطفى كامل وهي التي أرادت حرق المراحل انقلابيا، فكان المآل خسران الديموقراطية السياسية باسم الديموقراطية الاجتماعية التي لم تنتج بدورها سوى المساواة في القمع والاستبداد، وقد دشنت مسارها على المستوى التحرري الوطني بهزيمة حزيران 1967 المدوية للتيارين القومويين الشعبويين (البعث والناصرية) وختمت مسارها في بداية القرن الواحد والعشرين باحتلال العراق (البعثي)، الأمر الذي كان قد حذر من خطره الإمام منذ قرن وربع قبل الاحتلال البريطاني لمصر، أما الخط الثاني فهو خط الإمام الدستوري : أحمد لطفي السيد سعد زغلول طه حسين.... الخ هذا الخط انكسر على يد الخط الأول الشعبوي العسكري الشعاري.
لقد كان مطمحنا منذ بداية هذا البحث أن نقيم حوارا بين تجربة الإمام الفكرية والسياسية وتجربتنا المعاصرة والراهنة ،ولذا يقتضي منا التنويه إلى أن النقد الشديد الذي يوجهه الإمام لأحمد عرابي ومحمد علي سيفاجئ القارئ العربي المعاصر الذي تعود على تبجيل هذين الاسمين وفق التاريخ الرسمي للخطاب القومي العربي، الأول بوصفه صاحب مشروع تحديثي وتوحيدي، والثاني بوصفه صاحب مشروع وطني مقاوم للاستعمار، لكن محمد عبده (إمام) المدرسة الليبرالية الإصلاحية الدستورية الديموقراطية العربية الذي انكسر خطه لصالح الخطاب (الثوري القوموي...)، كان مخلصا لمنهجه ومنظومة رؤيته في مناهضة الاستبداد من خلال نقد محمد علي، ومناهضته للشعاروية الانقلابية الزائفة في نقد أحمد عرابي، ولعل نقد محمد علي وأحمد عرابي من منظور دستوري ديموقراطي لا يزال راهنيا حتى اليوم من حيث معاينة النظام العربي القائم، إن كان على مستوى الاستبداد عموما (محمد علي) وإن كان على المستوى الشعاري القوموي الزائف الذي قاد الأمة إلى هزائم كارثية منذ 5 حزيران 1967 وصولا إلى هزيمة 9 نيسان 2003 بسقوط بغداد.


abdulrazakeid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved