الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 18th September,2006 العدد : 171

الأثنين 25 ,شعبان 1427

بين الموت والخلود
أمل زاهد
يهجس الإنسان بالخلود، ويرتعد فرقا من فكرة الفناء والعدم، يفجر ذاته في الكون ويتطلع إلى المدى باحثا عما يحقق له الخلود! عما يبقي اسمه وتاريخه ومنجزه صامداً صلداً أمام عوامل التعرية، شامخاً مقاوماً السقوط بين فكي أحجيتي الزمان والمكان.. فلا مرور الزمان قادراً على محو اسمه، ولا نأي المكان واندثاره واختفاؤه مستطيعاً طمس منجزه.
ربما كانت فكرة الخلود المجدولة في دواخل الإنسان والمختلطة بشرايينه ودمائه أحد أهم الدوافع السلوكية والغرائز الفطرية التي تحركه وتحفزه للعمل والانجاز، فهو يحب ويتزوج ويتكاثر ويخلق ويبدع ويجد ويكد ليوصل اليوم بالمستقبل والآن بغد، وليضمن انسحاب خيط من أعماق ذاته ومن باطن تكوينه ينسج به امتداداً لوجوده وخطوات تلي خطواته يكمل بسيرها المشوار ويتم بها الرحلة.
ولا يخاف الإنسان شيئاً قدر خوفه من الموت، ولا يفزع من أمر قد فزعه من النهايات وما تحمله في طياتها من احتمال للفناء والعدم، فيعمل ويجد ويلهو بالقتال والصراع تارة وبالابداع والفن والخلق تارة أخرى كي ينسى أنه يمتطي الرحيل وأن أصل الأشياء هو الزوال وأن الشمس لا بد أن تغفو في حضن البحر ولا بد أن يغيّب سناها وضوءها الغروب، وأن القمر لا بد أن يتسربل بأجنحة السواد فتبتلعه طيات السماوات وآفاقها! فكل شيء زائل ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام!.
يقول نيكوس كزانتزاكس كاتب رواية (زوربا) الشهيرة في كتابه (تصوف): لحظة أن نولد تبدأ رحلة العودة. الانطلاق والعودة في آن. كل لحظة نموت؛ لهذا جاهر كثيرون بأن هدف الحياة هو الموت. ما أن نولد حتى تبدأ محاولاتنا في أن نخلق ونبتكر، أن نجعل للمادة حياة. كل لحظة نولد؛ لذا جاهر كثيرون بأن هدف الحياة هو الخلود.
ما بين فكرتي الموت والخلود يتحرك الإنسان في مجالات ومدارات تدفعه للصعود تارة وللهبوط أخرى حتى يسلم بالرحيل ويرفع رايته البيضاء ويقضي الله أمراً كان مفعولا!!. وكانت ولا زالت فكرة الموت ملهما للمبدعين ومحفزا لهم على محاولة سبر أغوار النفس البشرية واكتشاف كيفية تعامل الإنسان مع الموت والتعاطي معه كحقيقة يجبر الإنسان على تقبلها والتعايش معها والرضا بها، وكيف يتحايل الإنسان على فكرة الفناء وكيف يراوغ الموت ليتملص من بين فكيه تارة مقاوماً ورافضاً المرور إلى عالمه أو ليستسلم له تارة أخرى فاقداً أي دافع للحياة أو رغبة فيها.
ولكن ماذا لو توقف الموت عن أداء مهمته يوماً واحداً؟ وما الذي يمكن أن يحدث لو تعطلت قدرته في القضاء على البشر والإطباق على أنفاسهم؟! تلك هي فكرة الكاتب البرتغالي (خوزيه سراماغوا) الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1998م في أحدث رواياته، فهو يتخيل بالطبع حالة مستعصية لا يمكن حدوثها ثم يفجر من خلالها أحداثه الساخرة حيث تعم الفوضى في البلاد بعد أن يعلن الموت توقفه عن العمل وتتعالى الاحتجاجات تناشد الحكومة وضع حد لتلك الفوضى!.
ويقول سارماغو: هذا الخبر الذي يعلنه الموت قد يبدو ظاهرة سعيدة لكنه عكس ذلك تماماً. إن هذا هو أتعس شيء يمكن أن تمر به الإنسانية!. ومن خلال روايته الخيالية ينقد الكاتب الحكومة ويتهكم على وسائل الإعلام ويسخر من جهات عديدة أخرى.
ويعلق في مقابلة معه قائلاً: إن الحياة لا يمكن أن تعيش من دون وجود الموت؛ لذا علينا أن نموت كي نبقى أحياء. ويضيف قائلا: لا بد أن ننظر إلى الموت نظرة أخرى..
ولكن هل من الممكن أن يتقبل الإنسان رحيل حبيبه ومغادرته حتى لو علم أن الموت أفضل له وفيه الراحة والسكينة التي لا يستطيع أن ينعم بها في الحياة؟! و ألا يسعى الكاتب نفسه للحياة والاستمرار والبقاء بمقاربته لفكرة الموت ومحاولته اختراقها؟..
تلك هي مأساة الإنسان وإشكاليته مع الموت، فمع كل نفس يتنفسه يقصر طريقه إلى حتفه، ولكنه يأبى إلا البحث عما يخلده ويبقي اسمه محفورا على ذاكرة الأزمان.
وهل يمكن أن يشعر الإنسان بالخلود وهو يتنفس نفحات هواء الحياة الفانية؟
هل يستطيع أن يلمس بأنامل ذاته لحظات تتجلل بسحر الأبدية وتشدو بمعزوفة الديمومة والبقاء وهو بعد لا يزال ممسكا بأعطاف حياة.. الوهم والتيه والارتحال عنوانها؟..
عايشت وغيري لحظات كثيرة يتوقف فيها الزمن ويشعر فيها الإنسان بأيدٍ مهيبة تمسك بعقارب الساعة فيتجمد الوقت وتتوقف دقات الزمن في دواخلنا، فما نعود نسمع إلا صوت الخلود صارخاً قوياً يستهزئ بالفناء ويسخر من العدم ويؤكد لنا أننا باقون أبداً ما بقي الكون وأننا إحدى أطراف المعادلة التي لا يمكن أن تكتمل وتتحقق إلا بها.
قد تكون دقائق أو ثوان تلك التي نشعر بها بتلك المشاعر، ولكننا نعبر من خلالها إلى دنيا الخلود ونستقل أجنحتها إلى عالم الأبدية، فيخفت صوت الزمان والمكان، ويتلاشى الصخب فلا نعود نسمع إلا همسا أو صمتا مقدسا.. ويأخذنا ذلك الصمت الجليل على مراكبه لنبحر في عوالم الخلود فيتكثف إحساسنا بما نشاهده أو نسمعه أو نشعر به في تلك اللحظات، فنتملص من ذواتنا لنمتزج مع تلك المرئيات أو المسموعات ونتوحد بها ونتمازج معها.. نشعر وقتها بأبديتنا وخلودنا متجاوزين ضعف الجسد وطينية تركيبه ليعلو صوت الروح الخالدة والباقية عندما تبلى العروق ويفنى الثوب الذي يلبسها وتلبسه لفترة من الزمن.
لحظات التجلي هذه التي نقترب فيها من الخالق ومن ملكوته الواسع قد نشعر بها ونحن قرب حبيب أو عندما ننصهر في عمل إبداعي أو عندما نتوحد مع الطبيعة وسحرها أو عندما نستمع إلى نغمات الطبيعة التي أبدعتها يد الخالق أو نغمات موسيقية أبدعتها يد المخلوق، فنقارب الخلود ونلامس حدود الأبدية.. وهنا لعمري تسكن عظمة الإنسان ويتجلى تميزه وتفرده فهو قادر أبدا على التحليق والسفر خارج حدود جسده مهشما سجن الزمان والمكان.. وهو قادر أيضا أن ينسلخ عن جسده ليحلق بروحه فوق كل الحدود وعبر كل الأزمان.
قوة وضعف.. فرح وحزن.. سعادة وشقاء.. يأس ورجاء.. حركة وسكون.. ارتفاع وانخفاض.. طاقة مفتوحة على مصراعيها على الأمل، وأخرى تسحبه إلى مهاوي اليأس.. تيار صاعد نحو العمل والإنجاز، وتيار هابط نحو الركود والموت.. ويبقى الإنسان يصارع هذين التيارين المتعاكسين حتى ينسدل جفناه فوق عينيه، ويوارى جسده بالتراب، وتنتهي رحلته في هذه الحياة الفانية.. تنتهي الرحلة.. ويموت الجسد ويغمض الجفنان على عينين تلوح فيهما بواقي نظرة ترنو إلى الخلود وتتوق إلى الأبدية وتطمح إلى الانعتاق!!.


Amal_zahid@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved