الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 18th September,2006 العدد : 171

الأثنين 25 ,شعبان 1427

قصتان قصيرتان
سعاد فهد السعيد
(1)
نظرات الطفلة منى
خلف الباب
تتهادى الطرقات عبر أزيز المكيف، تخترق مخدة القطن وتتسرّب إلى أحلامي، أبواق تنفخ في بيداء تركها الليل منحة للشمس نافخوها حافون بي يدورون بأقدام تحتك بالأرض ترسم دائرة تلتهب تحتهم كقرص الشمس، تتمايل أيديهم راقصة في الهواء، مركز الدائرة شجرة شوكية مربوطة أنا إليها، جحافل رعاة البقر هابّة في اتجاههم تلتحم برؤوس تهتز بأكاليل الريش، ريش الرؤوس ينتقل إلى الخصور والشجرة الشوكية تبدلت، صارت نخلة جوز الهند، والفلاة إلى غابة والأبواق غدت طبولاً تُقرع، وجحافل الخيل إلى سيارات (جيب) راكبوها هم رعاة البقر أنفسهم. أفتح عيني، ضوء شفيف، السادسة مساءً أو صباحاً لا أدري طنين في رأسي، تتوقف الطرقات كالمخدرة أخذتني غفوة إلى أعماق نوم ساحر، تعود الطرقات تتوالى، صحوت على صرخة باسمي أعطاني قفص دجاجات وغادر لم نتكلم تم التسليم والاستلام باتفاق مسبق، وضعت القفص على الطاولة ودخلت الحمام الملحق بالغرفة، جاءني طرق وأنا في الحمام ثم غادر قبل خروجي، فتحت باب الغرفة بعد الانتهاء من الاغتسال تلفت في السطح لا أحد بسرعة أغلقت الباب بعد أخذ قفص الأرانب الموضوع قرب الباب، انفجار الشمس هذا اليوم لا يحتمل، ديك في قفص الدجاجات لم أطلبه ربما شك في لصغر سنه، هناك قفص حمامات على الأرض لا أدري متى جيء به تستدير وتهدل داخله، نقّة عالية اختلعتْ قلبي فزعاً صدرت من دجاجة تبيض. باب الغرفة يئن وينفتح أثناء قضمي كعكة آكلها بقرف ورعب تمثلت أمامي بائعة السميط وهي تدور بزنبيل السميط داخل دورة المياه، آخر مستحيل أقوم به الأكل داخل دورات المياه، كيف وصلت السميطة إلى يدي لا طعم لها رائحة دفرة تنفذ منها ومن فتحة الباب، الشمس اختفت، السطح مليء بالبط والأوز علون الشتلات الموزعة على حواف سور السطح كتاكيت ضاجة بالوصوصة أطأها بقدمي فتلتزق بالأرض ثم ترتفع أرواحها مختلطة بالهواء محتفظة بدمائها داخل أجسادها، لم أهتم باختفاء الدكة المنصوبة تحت العريش المواجهة لغرفتي والمقام مكانها خرطوم مياه موصول بصنبور، وطشوت فيها سواطير وحبال وسكاكين وخرق بالية، أخذت منها ساطوراً وأخرجت أقفاص الدجاج والحمام والأرانب بدأت بهبد الأقفاص على من فيها بالساطور وملاحقة الهارب منها، تغافلني الأرنب القط وعالجته بضربة فصلت جسده نصفين طوليين، جاءتني خطوات الطفلة (منى) تصعد الدرج ضحكت لمرأى خثرات الدماء على البلاط وقطع اللحم المتناثرة والمتداخلة بخشب الأقفاص صرتُ أنا وإياها نرمي الأعضاء المقطعة في طشت سحبته إلى منتصف السطح تضحك كلما علقت الدماء في يديها، أفزعتني صرختها المفاجئة: قتلتِ قطك المدلل؟ رددتُ غير آسفة: اختلط علي أمره حسبته أرنباً.
صعدت أمها فجأة السطح، مسكتني من كتفي وضغطتهما: هاه أليست الدواجن مسلية، سأتيك بعشرات الأقفاص يومياً تتسلين بها. (غرفتي ملأى، عمياء ألا دخلنا الغرفة في كل زاوية منها دجاجة تنقر وأرنب يحفر وحمامة تستدير، نظرت إلى ملبسي: بدليه!! كله دماء. هي لا تدري أن ملابسي هناك بعيدة وليس لي سواه.
نادت الطفلة إلى الغرفة وطلبت أن تجلب جلباباً، خرجت الطفلة ووقفت على سور السطح نادت، جاءها رمياً جلباب من أسفل، شرحته الأم بيديها من جانب واحد وقذفته في وجهي، لفيه!! وهات لباسك الأحمر أغسله.
لففتُ الجلباب وكان بالإمكان لبسه كاملاً دون شرح، ترفع أكمامه وأطرافه الطويلة، لكن لم أناقش التفت إلى السميط على الطاولة: خذيه!! يشعرني بالقرف اشتريته البارحة من بائعة في دورة مياه، هات خبزاً آخر!!
رفعته إلى أنفها: جميل فيه رائحة الموت التي تحبين!!
فتت السميط للدواجن في الغرفة، ثم فتحت باب الدولاب وأخرجت قفة، فلت الصرة التي داخلها وبدأت تقذف بدوائر كعك كثيرة: روحا أمي وأبي، هنا في الغرفة تنامان معك.
(روحا أمك وأبيك في الكعك) أضحك وهي تسحبني إلى خارج الغرفة، ارتقينا طوباً مصفوفاً محاذاة السور وأطللنا على حوش كبير، قالت: هنا يرقدان.
في ضبابية شاهدت كومة تراب تترفع متناثرة عن امرأة غبراء تشبه بائعة السميط في دورة المياه، تبادلت الإشارة بالأيدي مع المرأة الواقفة بجانبي، ثم قامت من تحت الكومة نافضة التراب تقدمت، قليلاً وظهرت من فتحة الدرج متجهة إلينا وكنا ما زلنا فوق الطوب، موجهة الكلام لي: إياك إياك تأكلي من الكعكات اللائي في القفة!!! (كيف وأنا أساساً أقرف منها؟؟!!) تطلعت إلى الجلبات الملفوفة به ثم قلبته بيدها: جلبات زوجي، أعيدي خياطته!! (لم أشرحه كي أخيطه!!) ظهرت الطفلة وفي يدها إبرة وخيط تناولتهما المرأة الغبراء وجذبتني نحوها فلت الجلبات وعدلته وشرعت تخيط الجنب المقدود، كنت أتألم كلما شاهدت الإبرة تخرج من الطرف الثاني اشتد الألم في جانبي الأيسر، أدنيت رأسي آملة انتهائها رأيتها تخيط الجلباب على لحمي، أكملت غير مبالية بفزاتي المولولة وكانت إحداها متزامنة مع فتح عيني في عتمة الغرفة وطرقات متصاعدة تأتي من خارجها.
أزحت جهاز التحكم عن بعد المخترق عميقاً جنبي الأيسر، استقبلتني أنوار الصالة في طريقي إلى باب الشقة المرتجف من تتابع الطرقات، صاحب العمارة يزف بشارة تخليصي من نقنقة الدجاج وخربشة الأرانب وصفق أجنحة الحمام وبشاعة بطبطة البط: اشتريتها كما أمرتني من البواب وزوجته وذبحتها.. خيرتهم سكنى السطح بالمجان أو الطيور!!
مال رأسي يمين صاحب العمارة، فرأيت البواب وزوجته وطفلتهما (منى) مصطفين في الممر قبالة الباب يرمقونني بنظرة المنتقم المحروم وأنا أعصر عيني من وطأة الألم الذي أحدثه جهاز التحكم عن بعد المنغرز في جنبي مدة نومة ما بعد الظهر.
(2)
(هذا... من هذا....)
دخل وقبل أن يضع يده على مفتاح الضوء، وقبل أن يخلع حذاءه عند باب الغرفة توجه وسحب الستارة، حسم الأمر دون نقاش (برد.. هواء.. طيف ما في البيت المجاور.. حتى الشمس الغاربة حمّلها ذنباً قبل أن تغيب) سرد كل المبررات، لم أظهر تذمراً من إغلاق الستارة، حط على طرف السرير وباستفهامات عن تصليح عطل في الجوال برّر ليده أن تمتد وتتناول جوالي من فوق الطاولة لإجراء مقارنة..
أبو خالد، هذا جارنا؟!
لا، صاحب مكتب تصوير الأوراق.
أيمن، من أيمن؟!
مهندس الكمبيوتر.
(من الألف إلى الياء متجاهلاً الأسماء المؤنثة)، ضغط رأس الجوال طويلاً وأخمده دون إذن، تحرك نحو معلاق الملابس (كنتُ الطالبة المميزة في الجامعة بلبس فانيلة رجالية نصف كم تحت ملابسها، والمشهورة بلبس بنطال تحت تنورتها المفتوحة) الملابس الشفافة والمفتوحة لها عندي ضمانات لا يجهل هذا يعلمه جيداً، لذلك ترك المعلاق وأخذ دفتر الملوحظات من على المكتب، يعرف مكان تدوين (كلمة مرور الكمبيوتر) خلف الغلاف الأول، نقر ملف الصور، فظهرت صورهم الأصلع أقدمهم يحفظ تفاصيله، تعداه أبو الشوارب المفتولة من السابقين أيضاً يتوقف عنده طويلاً، تشغله الشوارب، يشير إليها دائماً ويهز رأسه تعجباً، صاحب النظارتين لا يمل التعليق عليهما، ورمي سمكهما بالنكات، الوجوه معتادة، مرر الشريط، يظلل صورة مستجدة، لا أدري أياً من الأيقونات ضغط.. بعد فترة من النبش والتفتيش في الغرفة، أعطيته إشارة بالمغادرة.
حركته بطيئة، يتلكأ في المشي يسأل عن أشياء معلومة وتافهة، وعند باب الغرفة يقوم بحركات ملاطفة، الوقت غير مناسب لها، يأتي صوته من الصالة لا يخطو إلا على سماع صوتي، أسمع خبط كفيه على خشب الدرج يكلمني يطمئن لقرب صوتي، يغادر صوته قليلاً ثم يعود جسداً عند باب غرفتي:
عمه.. عمه (يموّجها بلطف وحنان، وترجٍ شديد) آخر مرة والله آخر مرة.
في السادسة الابتدائية وتخاف النزول منفرداً إلى الدور الأرضي، قلتها باستخفاف واستهانة وأنا أصحبه في النزول.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved