الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 19th January,2004 العدد : 44

الأثنين 27 ,ذو القعدة 1424

وقفات على أطلال قديمة 2- 3
أ.د.منصور الحازمي

لقد شجعتني «الدحلة» على التفكير في كتابة حلقة ثانية أسميها «الريع» أو ريع الرسّان، وهو الحي الذي انتقلت أسرتي إليه في ذلك الزمان. ولكني لم أكتب سوى كلمات قليلة، لا أزال احتفظ بها مخطوطة أقول فيها:
«ليس الاختلاف في «الريع» بل في كلمة «الرسّان». كثير من الناس ينطقونها «الرسّام»، وأظنهم مخطئين. لأنني لم أر ولم أسمع ولم أقرأ أن ذلك الحي من أحياء مكة قد أنجب في تاريخه القديم أو الحديث «رسامين» ولكن المحتمل والأقرب إلى الواقع والمعقول أنه اشتهر في الماضي ب«رسّان» ماهر أو بمجموعة من الرسّانين الذين يصنعون أرسان الأباعير. وقد شهدت في أوائل السبعينيات الهجرية من القرن الماضي واحدا منهم حداداً لابد أنه من بقايا تلك الفصيلة المنقرضة من الحدادين.
وإذا كان «الريّع» قد حرم من الفنانين، بالمعنى الضيق لهذه الكلمة، فهو لم يحرم من أرباب الحرف الدقيقة، الذين لا تقل مهارتهم عن أولئك المتنفجين الذين يعملون بالريشة والأزميل. و«الريع» يغص بأولئك الحرفيين: السمكري والنجار والصائغ والسبحي والمنجد والصباغ والحذاء. وقد كانت لصناعاتهم تقاليد مرعية وأسرار خاصة، لا بد أنهم توارثوها أباً عن جد. وهم مع محافظتهم على أسرار الصنعة وتقاليدها، إلا أنهم كانوا على استعداد لتطويع إنتاجهم بما يتمشى مع ظروف البيئة والحالة الاقتصادية وتطور الذوق. وقد كان الحذاؤون صناع الأحذية ومعظمهم من البخارية، من أسرع الحرفيين استجابة إلى هذا التغير. فقد أدخلوا على هذه الصناعة شيئاً جديداً لم تألفه في تاريخها الطويل. لقد استبدلوا كفرات السيارات واللساتك المستعملة بجلود الماعز والبقر والجمال. والأحذية الجديدة تتميز بالمتانة والرخص، وإن افتقرت إلى الأناقة والأبهة. ومع ذلك، فالمشي بأحذية الكفرات خير من الحفاء، وهذه الأحذية، على كل حال، لا يقبل عليها سوى الطبقات الفقيرة من المجتمع. لقد أصبح للسيارات جلود ينتفع بها مثل الحيوانات تماماً، فسبحان مغير الأحوال.
وللسماكرة تفنن في صنعهم وحيل في ترويج بضاعتهم لا تقل عن تفنن الحذائين وحيلهم. والأطفال يعرفون ما للسمكري من أفضال، ويعترفون له بالحذق والمهارة، فتراهم يحومون حول دكانه منبهرين معجبين. وأهم تلك الأفضال حقيبة المدرسة ذات الألوان الزاهية المزركشة. كانت مجرد صفيح لماعّ أبيض، ثم أدرك السمكري بحاسته الفنية أن الصفيح قابلٌ للتجميل، فدهنه بالبوية وزخرفه بأشكال الزهور. وقد كانت تلك الحقائب الزاهية المزركشة معرضا متحركا في أيدي الأطفال في ذهابهم إلى المدرسة كل صباح، وفي عودتهم إلى منازلهم وقت الظهيرة. يحشونها بالكتب والدفاتر والأقلام والحلوى، وهي صلبة واسعة، وينتفع بها أحياناً في المعارك الصغيرة.
ولا يخلو «الريع» من الصناعات الدقيقة التي تحتاج إلى مهارة خاصة وإحساس وذوق. ومن هذه الصناعات نحت المسابح ونقش النوافذ الخشبية والرواشين، وصياغة الذهب والفضة والأحجار الكريمة.
وها نحن في «الريع». نقلة حضارية كبيرة. أعني بعد «الدحلة» رواشيننا تطلّ على الشارع الرئيسي، والوحيد إلى الحرم المكي. لم يكن يزيد عرضه على عشرة أمتار. وكان مترباً يبلله «الرشاش» بقطرات الماء في بعض المناسبات العامة والاحتفالات. ولكننا كنا نستطيع أن نفتح النوافذ ونتكئ على المساند والحشايا، وننظر إلى العالم من حولنا. كلّ الناس لا بد أن يمروا من أمامنا. وهذا يكفي.
لقد ظل ما كتبته عن «الريع» مخفيّاً لم ينشر، ولم أكتب في الحقيقة عنه إلا القليل. أتممت في «ريع الرسان» المرحلة الابتدائية في المدرسة الخالدية بجرول، وانتقلت بعدها إلى المعهد العلمي السعودي في قمة جبل هندي، قبل انحداره مع مدرسة تحضير البعثات إلى القشاشية بجوار المسعى القديمة وباب السلام.
إن ذكريات الطفولة لا تنسى، وفيها الكثير من الصدق والعفوية والجوانب الإنسانية، بدليل أن قسم الطفولة في السير الذاتية هو أهمها وأجملها، كما نرى مثلاً ، في أيام طه حسين وأيامي لأحمد السباعي وكما نرى أيضاً في السير الذاتية التي كتبها كلٌّ من عزيز ضياء وعبدالفتاح أبو مدين ومنصور الخريجي. ولكنني كنت أفكر في الكتابة عن جميع الأحياء التي قطنتها أثناء الدراسة بعد ذلك. فأكتب مثلاً، عن «الدقي» في القاهرة حين كنت طالباً في كلية الآداب جامعة القاهرة، و«البطحاء» في الرياض، حين انتقلت إليها معيداً بجامعة الملك سعود، و«سويس كولج» بلندن أثناء دراستي بجامعة لندن. ولا يزال المشروع في ذهني، فهل يتحقق؟ الله أعلم. ولكن الطفولة تظل، كما ذكرت، هي الأساس أو حجر الزاوية في جميع الذكريات. وقد كانت طفولة جيلي طفولة صعبة قاسية متقشفة. ولكنني أحن إليها ولا شك رغم كآبتها. ولا أظنني الوحيد في ذلك الحنين.
ومع ذلك، فلا بأس من أن أروي لكم هنا بعض ما حدث لي في شارع المساحة الجميل بحي الدقي. وقد كان الربيع يملأ الدروب بالزهور المتفتحة والروائح الزكية، ووجد الفتى نفسه فجأة في بيئة جديدة ووسط غريب لا عهد له به. وحواء تقف سافرة سادرة تتكلم بلباقة وتناقش بجرأة، رشيقة، سريعة الخطى تتدفق نشاطاً وحيوية. أما حواء التي أعجب بها فقد كانت إلى جانب ذلك من هواة الشعر وهي زميلة في القسم تقرب الشعراء والمتشاعرين من الطلاب، ولا تبخل عليهم بابتساماتها الخلابة التي تشبه الورود. ولكن فتى الجزيرة كان تائهاً مأخوذاً يغلب عليه الخجل والتردد والوجوم والحزن. وفي لحظة من لحظات يأسه وتمرده قررّ أن يمزّق الحجب. لماذا لا يكون شاعراً أو متشاعراً؟ فربما حظي بوردة صغيرة من تلك الورود التي يراها تتناثر من حوله كل صباح. فأهداها قصيدته الأولى «خفقات قلب»، ومنها هذه الأبيات:
وكم مرّة جمّعتنا الطريق
تظللنا وارفاتُ الشجرْ
أسير إليك حثيث الخطى
وأقصر أخرى بعيداً حذر
فلم أستطع أن أفوه بحبّي
إليك ولا أن أذيع الخبر
بأنّكِ نجم تألقّ في
سماء حياتي وبدرٌ أغر
ومن أراد أن يعرف ما الذي حدث بعد ذلك فليقرأ الإهداء الذي وجهته إليها في صدر ديواني الوحيد «أشواق وحكايات» قلت: «إلى مَنْ فُتنتْ بالشعر، ذيّاك الزمان، وفتنتُ بها، وجهدتُ، مخلصاً، أن أرضيها، فكتبت لها كلاماً موزوناً مقفى. أشاحتْ بوجهها وقالت: لم تصنعْ شيئاً إنما الشعر هو الحرّ المنطلق..
فسهرت الليالي كي أتحررّ من قيود الشعر حتى كبّلني بها.. وركبني غرور الشباب، فاستمرأت اللعبة.. ونسيتها.
أهدي إليها هذه المحاولات القديمة الجديدة علّها تصفح، بعدما أنضجْتها الحياة وشاختْ..
وشخت في الحزن معها..».
ولكنها لم تر الديوان ولم تر الإهداء. ورأيتها أنا صدفة بعد مضي أكثر من ربع قرن، وهاتفتني، وقلت هذه الأبيات بعد ذلك تعبيراً عن خيبة الأمل:
كلَّمت، قال صاحبي
مَنْ تُرى؟ قلتُ «موعدا»
بعد عشرين حجةً
مد لي طيفُها يَدَا
جاءني بعد أنْ مَضَتْ
أعْصرٌ وانقضتْ سُدى
لم يعدْ من حببْتُهُ
مثلما كان أغْيدا
لا ولا مَنْ أحبَّها
مفعَمَ القلْبِ أمردا
لم يصلْ غيرُ صوتها
ناعمَ الخطْوِ كالندى
يُسكر السّمَعَ نبرُهُ
كيفما اهتزَّ أنشدا
قالت الويلُ ما أرى؟
قلت: عيناكِ والرّدى
أما لندن فهي لندن بمنازلها العتيقة وشوارعها المكتظة، وحدائقها المنسّقة، ومسارحها المتعددة، ومكتباتها المتناثرة، ومتاحفها الشهيرة، وسكانها العشرة ملايين. إن كل شيء هنا يوحي بالعظمة والروعة عظمة المدينة وروعة الفن وهذه الطبيعة أيضاً رائعة فنانة، تتشكل وتتلوّن، تعبس وتبسم، تقسو وتلين، فتوحي إليك بالحركة والحيوية والتجدد.
لقد انفتحت أمامه، إذن، عوالم جديدة، فليسرحْ فيها كيف شاء وأنى شاء، وليستمدّ منها تجارب حية تنتزعه من النطاق المحلي الضيقّ الذي عرفه فيما مضى، إلى آفاق أوسع وأغنى وأرحب.
ولكن هيهات أن يتجرد الشرقي من شرقيته وأن يعجب بالحضارة الغربية إعجاباً كاملاً لا تشوبه الشوائب، إنها رواسب من البيئة، وأحقادٌ خلّفها تاريخ الغرب نفسه وموقفهُ العدائي من الشرق والشرقيين، منذ زمن طويل. ألم يقل كيبلنج شاعرُ الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس قولته الشهيرة بأن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا؟! وجورج صيدح الشاعر المهجري ألم يقل بأن الشعراء المهجريين في أمريكا لم يتأثروا بالبيئة الأمريكية الجديدة تأثرهم بالبيئة الأصلية القديمة التي نزحوا منها سوريا ولبنان؟ وها هو شاعرهم الأكبر إيليا أبو ماضي وقد وقف أمام ناطحات السحاب في نيويورك متحدياً ساخراً، معتزاً بعظمة الشرق وروحانيته:
نيويورك يا ذات البروج التي
سمتْ وطالتْ كي تمسّ الغمام
لن تبلغي والله باب السما
إلا بأوتار كَنَارِ الشآم
أما صاحبنا فقد رأى في الحضارة الغربية الجانب الخير والجانب الشرير في آن واحد، وهذه ظاهرة من ظواهر الطبيعة نفسها. وقد صور هذه الازدواجية في قصيدة سماها «تحت الأرض» ويقصد بها القطارات الأرضية بمدينة لندن، منها هذا المقطع:
هنا تحت أرض المدينه
تصحو الحياه
وتبعث من كهفها، كالطفوله
وجهاً ضحوكاً
وروحاً نبيله
وبسمة حبّ تزين الشفاه الجميله
وتبعث طوداً
ضجيجاً يمزق قلب السكونْ
بروقاً تخطّف منّا العيون
وينعق صوتٌ وتعصف ريحْ
وترجف أذرعة في ذهول
فيأتي قطارْ
ويمضي قطارْ
وتمضي الحياه.
ولكن ما لنا ولهذه الفلسفة وقد مضى عهد المهجرين منذ زمن طويل، ولماذا لا أحدثكم عن بعض الرفاق الذين زاملتهم في هذه الرحلة، وأولهم الصديق الدكتور محمد الشامخ، ولي معه قصة طويلة تبدأ من الطفولة أو الصبا في معهد مكة المكرمة، وتمر بالعجوزة والدقي والجيزة بالقاهرة، ثم بسويس كولج وفينشلي رود وراسيل سكوير في لندن، لتعود مرة ثانية إلى ملز الرياض والجامعة. كان قسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة الملك سعود سنة 1379هـ/1959م يتكون من أربعة أشخاص فقط:
الأستاذان مصطفى السقا وأحمد الحوفي والمعيدان الشامخ والحازمي. كنا أربعة في غرفة واحدة. الحوفي منشغل طوال الوقت بالكتابة يبدو أنه يؤلف في أوقات الدوام الرسمي والسقا يشارك في إدارة الجامعة والقسم، ويغفو أحياناً على كرسيه الوثير ولا يصحو إلا على مسألة نحوية. أما الشامخ وأنا فكنا نحلم ونستعجل الرحيل إلى بلاد الإنجليز، ونتحمل ثقل المحاضرات ونؤديها على مضض.
واستقبلنا في لندن صديقنا الهمام عزت خطاب. كان يلبس معطفاً وقبعة ويحمل مظلة ويرطن بطلاقة. لم نحسده إلا على فصاحته وخفته وخبرته المتناهية بخرائط لندن وأنفاقها، وحسن اختياره للأطعمة الهندية.
وبعد اغتراب طويل مع اللغة والأحياء والطبيعة والبشر ذهبت والصديق محمد الشامخ إلى البروفسور سارجنت المشرف على دراسات الشرق الأوسط بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن وقلنا له بلغة إنجليزية مهذبة:
ها نحن قد اجتزنا امتحان اللغة الإنجليزية ونريد أن نبدأ الآن في تسجيل الرسالة.
قال: وهل عثرتما على موضوعات بعينها؟
قلنا: وقد بيّتنا الأمر نعم، الأدب المقارن، ربما جبران ووليم بليك، ومدرسة الديوان ونقاد الرومانسية من الإنجليز.
فهز رأسه الضخم وقال:
عظيم، ولكن هل تعرفان شيئاً عن الأدب الإنجليزي؟
فهززنا رؤوسنا المتواضعة بالنفي، واستدركنا بأن الأمر غير ميؤوس منه تماماً، وبإمكاننا أن نتعلم، فنحن والحق يقال لسنا في عجلة من أمرنا، وبعثتنا مفتوحة إلى ما لا نهاية.
فأطرق الرجل هنيهة، ثم أدار بأصابعه الضخمة قرص التليفون:
آلو، بروفسور بولو، يأتيك غداً فلان وفلان أرجو تسجيلهما مستمعيْن معك في محاضرات النقد.
ثم التفت إلينا وقال:
اذهبا غداً إلى البروفسور بولو بكنجز كوليج، فهو سيتدبر الأمر.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
كتب
وراقيات
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved