الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 19th January,2004 العدد : 44

الأثنين 27 ,ذو القعدة 1424

هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات
شاعر.. الغجرية الحسناء
بقلم/علوي طه الصافي*
الحب عند جماعات «الغجر» المنتشرة في أغلب أنحاء العالم تحكمه حسب اعتقادهم حالتان: هما «الحياة الأبدية».. أو «الموت النهائي».. لهذا فإن من عاداتهم إذا أحبَّ اثنان بعضهما «رجلا، وامرأة» أخذا سكينا ليقطع كل واحد منهما أحد شرايين رسغيهما، أو ساعديهما، وحين يسيل دمهما يجمعان الدمين فيصبحان دماً واحداً، يؤرخ اتحاد المحبين للأبد، لا يفصلهما عن بعضهما إلا «الموت»، وبعض الروايات تقول: إنه إذا مات أحد المحبين فإن الآخر يقوم بقتل نفسه ليلحق بمحبه.. وسواء كانت هذه «الظاهرة» شائعة فعلاً بين جماعات الغجر، أم مجرد أسطورة.. إلا أن الكاتب المسرحي الإنجليزي الذائع الشهرة «وليام شكسبير» قد صوَّرها درامياً في روايته الرومانسية المعروفة «روميو.. وجوليت».. فهل هذه الرواية من خيال «شكسبير».. أم أنه عرفها من مجتمعات«الغجر»؟
وكلنا نعرف قصيدة الشاعر العربي العملاق «أحمد شوقي»، ومطلع قصيدته العذبة، التي صاغها الموسيقار العربي الكبير «محمد عبدالوهاب» لحناً أعذب.. هذا المطلع.. كما أذكره..:
جفنه علَّم الغَزَلْ
ومن الحبِّ ما قَتَل
فإذا عرفنا أن الشاعر «شوقي»، قد عاش فترة من عمره في «إسبانيا» المعروفة بوجود جماعات من «الغجر» فيها.. وفي زيارتي الشخصية لمدينة «غرناطة» بالأندلس العربية سابقا، وإسبانيا حالياً، زرت المنطقة التي يعيش فيها جماعة «الغجر»، خارج مدينة «غرناطة» كما هي عادتهم فهم لا يسكنون داخل المدن، بل يسكنون أرباضها.. حيث يعيشون حياتهم.. ويمارسون عاداتهم بحرية مطلقة في الهواء النقي داخل أنفاق وكهوف أو في خيام.
وقد عرفوا في العالم أنهم شعب الحرية المطلقة.. والرقص.. والغناء.. ومن أبرز الغناء والرقص اللذين اشتهروا بهما في إسبانيا «الفلامنكو».
إذا عرفنا أن الشاعر العربي «شوقي»، قد عاش في إسبانيا فلا نستبعد أنه عرف عن ظاهرة «الحب الاندماجي»، الأبدي، حياة وموتا، عند الغجر فكان تعبيره في عجز بيته الشعري «ومن الحب ما قتل» تعبيرا متأثرا، رامزاً موحياً، كأنه يؤكِّد الظاهرة أو الأسطورة سموها ما شئتم الشائعة بين جماعة «الغجر».
وصديقنا العزيز الشاعر الرقيق «إبراهيم عبدالله مفتاح» وقع في حب «غجرية» حسناء، ذهبت بلبه.. وسيطرت على مشاعره الإنسانية الشاعرة.. وخلبت قلبه.. وتمكنت من ذاكرته.. وتغلغل عشقه لها مخترقاً مسام جسمه، معربدا في دمه.. ممتزجا بكرياته الحمراء والبيضاء.. فأصبح مثل «مجنون ليلى» هائماً في أزقتها.. كعصفور مغرد على شواطئها الجميلة، ورملها الأبيض الناعم.. هذه الشواطئ التي لا تقل في روعتها وجمالها عن شواطئ «الريفيرا» الفرنسية.. و«هاواي» الأمريكية!!
حين جاء للعمل في الرياض بمجلة «الفيصل»، لم يمر عام على مكوثه حيث أصبح بعده طريح الفراش يمتص «الاكتئاب» ذوب نفسه.. ويرخي بأسداله السوداء على روحه.. كسمكة أخرجت من الماء وانتابتها نفضة الموت.. والحنين العنيف إلى الماء!! أو كعصفور طائر حر حبس وحيدا في قفص ضيِّق، وقد كان عصفوراً في الهواء الطلق يبلِّله القطر، وينعم بفضاء الحرية!!
توقف عن التغريد.. لم يقل خلال العام بيتا واحدا من الشعر.. خِفتُ عليه، وقد كنتُ سعيدا بوجوده معي في العمل، لأنه كان بأخلاقه النبيلة، والتزامه بعمله، وثقافته الجيدة، ولغته السليمة مرشحاً لتسنم منصب «مدير تحرير المجلة» بعد أن تمكَّن من العمل، وترافقنا في رحلة إلى «صنعاء» باليمن لتصوير معالمها وآثارها.. وتركته ليذهب في رحلة مع مصور المجلة لزيارة «مأرب» وللكتابة عن سدها التاريخي.. وكانت رحلة خطيرة، وشاقة، وطويلة نوعاً ما.. وقد نجح في مهمته.. كانت بداياته في العمل الصحافي، وهو عمل جديد عليه، فقد كان مدرساً يتعامل مع الصحافة عن بعد بإرسال قصائده الشعرية إليها.. كانت بدايته، وقدراته تبشِّر بنجاحه، وأنه سيكون في المستقبل نجماً صحافياً لامعاً بقدرة، واقتدار.
ولكن.. وألف آه من لكن، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.. فقد كان لمرضه كبير الأسى والحسرة على نفسي لأنني شعرت بالذنب، وأنني السبب في فراقه عن معشوقته الغجرية الحسناء.. فتأكدت وترسَّخت في نفسي ظاهرة أو أسطورة «الحب الغجري»!!
حين أخذناه إلى المستشفى همس الطبيب في أذني بأنه معرض للموت إذا لم يعد لمعشوقته الغجرية فوراً، لسوء حالته المرضية!!
وكان لا بد مما ليس منه بد.. لأن كلام الطبيب كما يقول العرب «قطعت جهيزة قول كل خطيب». فحملناه إلى المطار.. وترك الرياض في ليل أظلم.. ذهب وقلبي وكل مشاعري معه، رغم حزني لفراقه، وخسارتي لزمالته في العمل!!
لقد أطلتُ الحديث عن معشوقة صديقي العزيز «إبراهيم المفتاح» الغجرية الحسناء الساحرة.. وجاء الوقت لأذكرها باسمها.. إنها «جزيرة فرسان» الواقعة في وسط البحر الأحمر بمنطقة جازان.. قطعة من الأرض يحيط بها الماء من كل الجهات، يسكنها في الوقت الحاضر حسب تقديرنا ثلاثة آلاف نسمة، يزيدون أو ينقصون قليلاً.. يتحلون بالطيبة الفطرية، والكرم غير المتكلف، وحب زائر الجزيرة، والترحيب بضيوفها.
ويتبع هذه الجزيرة «الأم» مجموعة من الجزر التي تربو على المائتين حسب علمي وفوق كل ذي علم عليم دون الرجوع إلى مرجع، بعضها مأهول بالسكان، وبعضها غير مأهول.. أشهر هذه الجزر «قُمَّاح» جزيرة النخيل.. و«السقيد».. و«زفاف».. وغيرها.
وقد أطلقت على جزيرة «فرسان» الغجرية الحسناء، لأن من يزورها ويتعرَّف على أهلها ويلقي بجسده على رمال شواطئها، ويسمع شعر «الدانة» وقصص الغوص بحثاً عن اللؤلؤ الطبيعي، ويعرف أنها اتصلت ليس بالخليج العربي فحسب، بل ببعض البلدان الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا منذ أمد طويل.. وأن تاريخها يمتد إلى قبل «الكنعانيين»، وأن ألمانيا وصلتها بجنودها، وتركت أثراً لها يسمونه بيت «الجرمن» المأخوذة من كلمة GERMANY، إلى جانب غيرها من الآثار والمعالم.. كما وصلتها «البرتغال»!!
قلنا، من يزورها مرة واحدة، ويتعرَّف على كل هذه المفردات التاريخية يحرص على زيارتها مرتين، وثلاثاً، وأربعاً.. فهي جزيرة جاذبة، لا طاردة!!
ومن الطريف، وقد تحدثنا عن «الغجر»، أن في خارج جزيرة «فرسان» يعيش جماعة ترجع أصولها إلى «الغجر»، قدموا الجزيرة، واستقر بهم المقام كما هي عادتهم خارج منازل سكان الجزيرة، منعزلين بحياتهم وعاداتهم وتقاليدهم في الأفراح والأحزان.. يسميهم أهل الجزيرة «العبوس»، وقد قدموا من أماكن لا نعلم عنها شيئاً.. حتى لو كنا نعلم فلا نريد الخوض فيه، لأسباب لا نرى أيضاً داعياً لذكرها.. والحليم بالإشارة يفهم!!
وحين نعود لصديقنا «إبراهيم مفتاح» نجد أن علاقتنا به تربو على أكثر من أربعين عاما قبل أن يعرف أول ما يعرف كشاعر.. وقد سعدتُ بلقائه والتعرُّف عليه شخصياً، يجمعنا العمر الزمني.. حيث ذهبت إلى جزيرة «فرسان» بصفتي إخصائياً اجتماعياً مندوباً عن فرع «الضمان الاجتماعي» بجازان، لبحث حالات الفقراء والمحتاجين لمنحهم مخصصات مالية شهرية لمساعدتهم على الحياة.. ولعدم وجود فنادق فقد نزلت ضيفا على الصديق «مفتاح» لعدة أيام فتعرَّفت على والده الرجل الإنسان الذي أخاطبه «بالعم عبدالله مفتاح» تغمده الله بواسع رحمته، وكان من وجهاء فرسان وشعرائها الشعبيين.. كان إذا انتصف القمر كبد السماء نسهر على ضوئه، والنسائم البحرية تداعبنا على قصائد العم «عبدالله مفتاح» الشعبية، ورواية ما يصاحبها من قصص قد يكون أحياناً هو أحد أبطالها.. كما كان يسمعنا قصائد لغيره من الشعراء الذين سبقوه والذين عاصروه.. كم أتمنى لو قام الصديق «إبراهيم» بجمع هذا الشعر عن ألسنة بقية رواته قبل أن ينتقلوا إلى رحمة الله فيندثر هذا الفن، فهو رغم عاميته إلا أنه لا يخلو من إبداع، وتاريخ وقائع وأحداث ومناسبات تعد جزءاً مهماً من ذاكرة فرسان التاريخية ومفاصل تاريخها العام، وهو في الوقت نفسه يعد صورة من صور «فولوكلورها» بما يصاحب بعضه من أغان وأناشيد ورقص.. رغم أنه قدَّم نماذج منه في الكتب التي أصدرها عن تاريخ فرسان.
والوسط الأدبي في المملكة عرف الصديق «إبراهيم عبدالله مفتاح» شاعراً رومانسياً بما أصدره من دواوين شعرية متعددة، ومشاركاً في الندوات والأمسيات الشعرية في النوادي الأدبية، وبعض المحافل الشعرية في داخل المملكة وخارجها.. وإذا كان قد أكثر من «القصائد العمودية الخليلية»، إلا أن له بعض القصائد في «شعر التفعيلة» استطاع أن يؤكد قدراته الفنية، وبراعة مخيلته، وجمال صوره الشعرية في النوعين.. وهذا دلالة على أصالة موهبته، وتطويعها للتجويد والتجديد.
وهو كشخصية مرهف الإحساس.. قريب إلى النفس.. سليم الطوية.. لا يعرف الكذب ولا الرياء.. ملتزم في غير تزمت .. منفتح في التزام.. لا يحب السفر طويلاً عن جزيرته.. يهوى صيد السمك.. يسعى اجتماعياً ورسمياً إلى كل ما فيه تقدم جزيرته.. يشارك في كل المناسبات التي تقام فيها.. يعرف فيها وعنها كل حفنة من ترابها، وكل حبة رمل على شاطئها.. كل صوت «قمري» من قماريها.. ومن عشقه لها قد لا نبالغ إذا قلنا: إنه يعرف حتى عدد نجوم سمائها.. إنه العشق أو الحب الذي يرى بالبصيرة، لا بالبصر.. بالأحاسيس والمشاعر، لا بالحروف الهجائية!!
إذا أردت أن تدخل «فرسان» فإن بوابتها الرئيسة هي «إبراهيم مفتاح».. لأنك من خلال هذه البوابة لا تحتاج إلى جواز سفر.. أو تأشيرة.. أو تذكرة دخول.
وإذا أردت معرفة معالمها الصغيرة والكبيرة وآثارها فإن خير خرِّيت تختاره لمرافقتك هو «إبراهيم مفتاح»، هذا الشاعر الرومانسي الرقيق أفضل من قال فيها شعراً مورقاً مونقاً.
اختزنت أذناه أحاديث أمواج شاطئها الهادئة.. وأصغَتْ إلى زقزقات عصافيرها طائرة حرة، أو في أعشاشها.. قال فيها «المقامات الفرسانية».. واصطحب «أشجارها في أدبياتها» جعل لأشجارها شفاهاً ترتعش.. ولساناً تتحدث عن تاريخها الموغل في القدم!!
نَبَشَ أرضها بيديه، وذاكَرَتْه ليحكي للآخرين تاريخها القديم، والجديد «جيولوجياً».. وسبَحَ في بحرها ليعلم الناس لغة البحار نثراً وشعراً!!.. واصطاد سمكها.. و«جراجحها»!!
شارك علماء الجيولوجيا والباحثين والدارسين في رحلاتهم ليقدِّم لعشاق المعرفة ما يستطيعه عن جزيرته.. والجديد في المعرفة عن جزيرته آخر كتاب من كتبه العلمية البحثية، المزوَّدة بالخرائط والوثائق والصور جاء بعنوان «فرسان.. بين الجيولوجيا والتاريخ».
إذن، لا غرابة ولا مبالغة فيما قلناه في هذا الموضوع عن صديقنا العزيز «إبراهيم عبدالله مفتاح».
فهو ليس شاعر فرسان المعاصر فحسب.. بل مؤرخها.. ومجغرفها.. وأديبها.. وصاحب مقاماتها.. وجيولوجيها.. ورائد السياحة فيها.. وبدونه ما أصبح لفرسان صوتها المسموع.. ولحنها العذب.. وموسيقاها الخاصة.. ومكانتها الحضارية التاريخية لدى جيلنا الحاضر والأجيال القادمة.
فإذا أردت سماع أغاني فرسان، وأنغام شاطئها وبحرها، وتغريد قماريها، فاقرأ دواوين شعره.. وإذا أردت معرفة أي معلومة عنها فاقرأ كتبه!!
وتظل «فرسان» هي «إبراهيم مفتاح».. ويبقى هو «فرسان».. وقلمي «المتواضع» عاشق حين يلقى العاشقينا.. وفوق كل ذلك فإن «مفتاح» شقيق روح.. وصديق عمر، يسكن في عيني!! ولو وجدت فندقاً عند زيارتي لفرسان فسأنزل منزل صديقي العزيز «مفتاح» لأنه بالنسبة لي سيكون «الأفضل».. و«الأجمل».. و«الأحسن».. و«الأفخم».. و«الأحب»، من أي فندق عالمي بنجومه العديدة، في أجمل مدينة في العالم!!


alwi@alsafi.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
كتب
وراقيات
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved