الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 19th January,2004 العدد : 44

الأثنين 27 ,ذو القعدة 1424

استراحة داخل صومعة الفكر
جولة في عربات الحزن
عبدالرحمن العشماوي
سعد البواردي

ماذا يمكن انتظاره... مرحلة مطاياها عربات.؟ وعرباتها حزن وعذابات؟! لا شيء أكثر من آهات ودموع ومفاجآت، وربما أيضاً مواجهات في معركة الألم لعل بصيصاً من أمل هارب يفتح نافذة ولو صغيرة في إحدى نوافذ عرباته المغلقة المنغلقة حول عالمها المسكون بالحزن..
العشماوي اختار لنفسه كما اختار لنا كمتلقين هذا المسير.. وهذا المصير الذي سوف يجهدنا.. ويحملنا معه على رفع راية الجهاد للخلاص من توابعه.. فالحزن يسكننا جميعاً في دواخل بيوتنا.. وفي داخل أحاسيسنا كما العشماوي داخل عرباته..
يبدو للوهلة الأولى من قصيدته «أمطر سحاب الحب» أن نار أحزانه مشتعلة تفتقر إلى صيِّب طيب يُطفئ سعارها:
«أمطرْ سحابَ الحبِّ غيثِ سلامِ
فمشاعري ظمأى، وقلبي ظامي
وقصائدي العطشى يحرقها لظى
حزني وقافلتي بلا انغامِ»
يا صديقي مَن قال: إن قافلتك.. أو حتى قافيتك دون نغم؟ ابدا إن صداه الموجع يرجِّع عن بُعد ولكن بحسٍّ ملؤه الحيرة والشكوى.. كيف لا والريح تثير غبارها في وجهك.. وراحلتك دون خطام، وغيوم حزنك عقدت حلفا بين جوانحك كي تمطر خواطرك بسهامها، ألا يكفي كل هذا كي تتهم قافلتك أنها دون نغم.. أليس النغم قاسما مشتركا أعظم بين ما نستعذبه.. وما نتعذب منه؟!!
في قافلته مساحة من زمن الحزن غير محدودة.. وجه عراق الموجع من داخله ومن خارجه، طاجكستان، والنظام العالمي الجديد المتآمر في مسوح نظام.. وتحت قبعة أبناء العم سام.. ويبحث في نهاية قصيدته عن سحابة حب ممطرة.. ولا أظنه وجد..
«أمطر سحابَ الحبِّ غيْثَ سعادةٍ
فلعلَّني أمحو بها آلامي..
أيامنا تمضي. فأمطرْ.. ربما
أحييْتَ لي حلماً من الأحلام»
ابدا يا شاعرنا هذا هو أحد مظاهر العجز ومن صُنعنا.. السماء لا تمطر ذهباً ولا حتى قصديراً.. من سواعد الإنسان يسعد المكان، ويُشاد البنيان.. حتى الحب لا يُستجدى..
«غداً يتحدث الرطب» لا تخرج عن دائرة حزن عرباته في مضامينها وإن اختلفت عناوينها إلا أنها أكثر أملاً وأقل سوداوية واتكالية.. إنها تبحث عن صحوة.. وعن نخوة.. وهو بحث أيضاً يثير الحزن ويدعو إلى التساؤل المرِّ؟
«لماذا أمَّتي احترقتْ
فمنها النارُ والحطبُ»
أجيبك عن تساؤلك.. أمتك احترقت لأنها افترقت.. والفرقة ضعف تُغري الطامعين.. وتغري الانهزاميِّين:
«حِماها يُستباح، ولم
تجرِّد سيفَها العَرَبُ»
لقد جردته وجربته فيما بيننا.. قوتنا ضعف.. وقيمتنا مهزوزة.. وقامتنا مقوسة الظهر لا تقوى على الشموخ..
نعم نحن أغنياء، ولكن يعوزنا استثمار ما نملك لصالح ما يعطي لصوتنا قوة النفاذ والاختراق لآذان خصومنا..
دمعة شاعرنا الساخنة هذه المرَّة ذرفها على وادي كشمير. بعد أن يتغنى بجغرافيَّته.. وديموقرافيته.. يتساءل:
«ما لي أرى ثغركِ لم يبتسم
ما لي أرى جفنك لم يرقد
لا تبتئس فالهمُّ لم يتحد
عهداً على الناس ولم يعقد)
الهمُّ لا يتخذ عهوداً.. ولا يوثق عقوداً.. الإنسان وحده هو الذي يَعْقد، ويعقِّد، ويحلُّ المعقَّد متى كان شهماً وحرّاً لا يهاب الموت من أجل وطنه وثوابته وكرامته..
«واديك يا كشمير يجري دما
لكن قلوب الناس كالجلمد
يا واديَ الموْتِ رأينا الردى
يخرجُ من بوابةِ المعبدِ»
إن كنتَ رأيته من بوابة المعبد في كشمير فقد رأيناه وما زلنا نراه من بوابة المسجد الأقصى.. وأرض الرافدَيْنِ والصومال، والشيشان، وأفغانستان، والسودان، والجانب المسلم من أرض البلقان.. وربما كل ما ينتهي ب«ان» مطامع الشيطان ممدودة جسورة منها ما وصل.. ومنها ما هو على الأبواب، فهل نرى ونشاركك ما رأيتَ؟
«ألا ترى روضةَ إيماننا
فيها اقتراب الحلم الأبعد
غداً يعود الخصب فاستبشري
أنا من النصر على موعد»
أرجو ألاَّ يتحول الاقتراب من الحلم إلى اغتراب.. فالأماني العِذَابُ دون عمل تُفضي بنا دائماً إلى عذاب..
ندع الدش وحكايته والمراهقة.. وما تنقله المحطات عبر فضاءاتها المختلفة.. إنه واحد من متغيرات كثيرة مثيرة لا نملك الإمساك بمقود حصانها العصيِّ الجموح، إنه فوق قدراتنا.. نحن متلقون.. وحسناً لو أمكن لنا حسن الاختيار.. وعن إقناع.. وأن نقدم في مضمار التنافس الفضائي ما يُشبع تطلعات المشاهد ويشدُّه عن قناعة ورضا لما يقدم له من برامج حيَّة تُثير لديه الرغبة في المتابعة.
شاعرنا الشابّ العشماوي تطغى على أشعاره روح إيمانية تستبين ملامحها من بين ثنايا أبياته.. إنه لا يكاد يخرج عن هذه القاعدة في جُلَّ عطائه الشعري بحكم ثقافته الدينية المشبعة بنبض إحساسه وحماسه للدفاع عن قضايا عالمه الإسلامي.. لقد وقف أمام محراب «أيا صوفيا» متذكِّراً حقبة زاهية من تاريخ الخلافة العثمانية ما لبثت أن انحسرت ليتحول المحراب إلى مزار.
«سألت مياه البحر قالت: أما ترى
أيا صوفيا للمجد فيها بدائع؟!
أيا صوفيا، قلب الكنيسة حجرة..
من الحقد. والصلبان فيها مقامع
بَنَوْكَ لتثليث الإله. ونازعوا
وكم ضلَّ عن درب الهدى من ينازع»
هذه المرة أبعدنا قليلاً عن رتمه الذي اعتدنا عليه في رحلتنا.. أو في جولتنا داخل عربات حزنه.. «نطفة الفجر» لعلها ميلاد مساحة لا تحمل الأحزان:
«دعيني أرى الازهار، يا روضة الشعر
وهزِّي إلى قلبي بأغصانك الخُضْرِ»
يطالبها أن ترد على نفسه الحزينة صفوها؛ لأن أحزانه أقوى من صبره.. ولأن أحلامه أجدبت بعد خصب، ولأن رمال آلامه تبث سمومها صيفا.. ودواء ثلجها شتاء، لهذه الأسباب وغيرها يصر شاعرنا في مد يد السؤال مستلباً من قدرتنا وعيها لو أنها تحركت.. وزرعت في حياتنا ربيع حب لا تطاله قائظة.. ولا تناله رياح خريف غاضبة.. الربيع يا شاعرنا نحن بما نمنحه في دواخلنا من قدرة على التغيير إلى الأفضل دون اتكال.. أو إهمال.. أو إخلال بإيحاءات العقل.. وإيماءات العقيدة.. ينهي مقطوعته الطويلة مخاطباً تلك التي تسكن قلبه.. وكأنما كان يخاطب نفسه فيها:
«إذا كان من عمرٍ علينا فإننا
لنؤمن أن العسر يفضي إلى اليسر»
حقيقة واحدة علينا أن نعيها ونعترف بها.. تلك الحقيقة إننا
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا..
نعم نحن نملك رأس مال روحي دون رأس الثروة.. لو أننا استثمرناه في حركة حياتنا ووظفناه جيداً لتغيرت الصورة ولتطورت السريرة.. ولأصبحنا كما قلت في مقطوعة نطفة البحر:
«إذا فرط الإنسان في رأس ماله
فليس غريباً أن يصير إلى خسر»
في قصيدته الوعظية يرسم لنا شاعرنا العشماوي جادة الخلاص حين تكون النوايا خالصة لوجه الله:
«قل لي بربك هل وجدت مجيلاً
وهل اتخذت إلى النجاة سبيلا»
أين هي علامات الاستفهام اللازمة؟
«أم كان قبرك من لهيب جهنم
ورأيت شيئاً في التراب مهولا؟
ماذا تقول لمنكر، ونكيره
أتقول: إنك لم تكن مسؤولا؟»
أسئلة كثيرة يطرحها لما قبل القبر.. وبعد ما بعد الحشر.. لصاحب الجبروت يوم أن يصبح العزيز ذليلا..
ويستدرك بعد تساؤله ليطرح عليه، وعلينا.. قائلاً:
«قل ما تشاء لمن تشاء فلن ترى
أحداً يجيب نداءك المقتولا»
ويتملكه العجب.. إذ لا عجب!.. ومعه الحق..
«إني لأعجب كيف ينسى الناس في
صخب الحياة القادم المجهولا»
ومع امرأة صومالية يتحسَّر قلبها كمداً.. ونكداً.. قائلاً:
«قم يا محمد. نامت الأعراب
وتقطَّعت ببلادك الأسباب
جاء الصليب مدجَّجاً بسلاحه
ووراءه التطبيل. والإرهاب
قم يا محمد عِرْض أمك خائف
وأمام كُوخي يا بُنيَّ كلاب»
العلج اللئيم يريعه بنظراته، ماذا يريد من هذا الكوخ الذي لا زاد فيه ولا شراب؟ ماذا يريد به؟ إنه مجرد كوخ يقطنه شيخ هده المرض وأضناه.. وطفل جائع وسرب من ذباب، وعباءة شدت بقايا هيكل. وثوب متهالك وحجاب.. وبقية من ثوب عرس قديم بدون كُم.. وبقايا حبر جامد وكتاب.. هذا كل مقتنيات الكوخ.. ما الذي أغراهم في اقتحامه والاستيلاء على مقتنياته الثمينة جداً!! ويستصرخ في أذن محمد:
«قم يا محمد جاءنا مستعمرٌ
قد سال منه على البلاد لُعابُ
عينٌ على الصومال والأخرى على
سوداننا.. فليُوقنِ المرتابُ
إني أرى حربا ضروساً قد بدَتْ
منها مخالبها. وصرصر نابُ»
حتى نحن نراها بعين الواقع تقترب أكثر وأكثر حاشدة أساطيلها وأباطيلها دون رحمة أو عدل.. لأن عقل القوة المادية في ثلاجة منذ أن أحسنا الظن في نواياها ونياتها الخادعة..
شاعرنا العشماوي على غير انتظار يطالبنا بتكسير أقلامنا رغم كل هذا الصمت المطبق.. ماذا بقي لنا؟!
«كسِّروا أقلامكم واعتزلوا
وادفنوا أحلامكم وامتثلوا
كشِّر الباطلُ عن أنيابه..
فاصبروا يا قومنا.. واحتملوا»
دعوة طوباوية تريد أن نخلع عنا رداء الحسِّ بالخطر.. أن ندير خدّنا الأيسر لمن هوى بكفه على خدنا الأيمن.. هكذا تُوحي ظاهريًّا بهذا المعنى وما أظنه يطلبه وإلا كان كارثة.. لعله خطاب لوم وتقريع لا أكثر.. ولكن..!
«افرشوا أهدابكم في دربه
بُسُطاً، وادعوا. له وابتهلوا
واقتلوا آمالكم في زمن
لم يعد ينفع فيه الأمل»
إلى هذا الحد نقف.. ونتوقف أمام قمة اليأس والإحباط.. هل هذا كل ما أراد أن يقوله؟
«أيها الشاعر، صفق كل ما
قال دجَّال. وغنى ثمل
وإذا قيل لك: «القدس» لنا
فاستعذ بالله مما نقلوا
وإذا قيل لك: الأقصى، فقل:
ويحكم يا قوم هذا الهيكل!
وإذا حدثت عن أطفالنا
فاستجر بالله مما فعلوا
كيف يرمون الحصى في وجه من
بقوانين السلام احتفلوا!»
بدا شاعرنا بمرارة السخرية والهزء يتحدث عن عالم مجنون بغطرسة القوة والتعالي منح مجرم الحرب شارون وسام رجل السلام.. ومع هذا أبطال الحجارة لن تهدأ أقدامهم.. وحملة الأقلام الشرفاء لن تصمت أقلامهم مستنهضين ما تبقَّى من كرامة رغم قسوة الظلم.. وقوة الإظلام.
«واأمتاه» صرخة مستفزة لا تخرج عن دائرة ما تقدَّم، مذكرة تارة.. ومستنكرة أخرى، عسى. ولعل نتجاوز محطتها دون استضافة أو اضافة إلى ما بعدها.. والذي بعدها مصبوغ بصفة الرفض لبعض السلوك الاجتماعي السيء.. حيث الظن.. والتهريج والغواية وكل شيطان لعين.. شرائح محددة لا يكاد يخلو منها مجتمع من المجتمعات تأخذ نصيبها من حيث لا تستحق أي نصيب.. السأم لدى شاعرنا متعدد الوجوه. سئم الغرب بغلظة سياسته وقوتها.. سئم وسام الاعلام المزيف. سئم الذين يقصرون اهتماماتهم على كنز المال. والقصور.. سئم تعالم الجهلاء كما لو أنهم علماء. سئم زيف الثقافة والفنون.. بعد كل هذا السأم ينادي:
«تعالوا يا أحبائي، فقلبي
شكا من قسوة الحزن الدفين
خذوني أحرفا بيض المعاني
وفي صفحات حبّكمو اكتبوني»
إن وجدت من يأخذك، ومن يكتبك .. لا تنس أن لك رفاقاً مثلك يبحثون عن ملجأ يأوي إليه شرفاء الناس.. و«للثكلى صرخة» في سيرة العشماوي ومسيرته، اسمعنا صداها عن بعد. استجبنا لتلك الصرخة اقتراباً كي نتعرف على ما وراءها:
«عربات حزنك ما تزال تسير
وجناح بُلبلك الحزين كسير
والسالكون الدرب، إما واثق
في خطوه، أو خائف مذعور»
أين الثكلى؟ وأين هي الصرخة، هذا كل ما يهمنا نحن السالكين معك على الدرب؟!
«لم لا أرى أمي تعدّ ملابسي
وعلى ملامحها رضًا وحبورُ؟
لم لا أرى أختي تطارد لعبتي؟
لِمَ لم يَعُد يشدو لنا العصفور
لِمَ لا أرى أثراً لقريتنا التي
فيها تكون عالمي المسحور
يا عالم الحرية احترقت يدي
أوما لديكم منقذ ونصير؟
لم تكن أنثى واحدة. ولا اثنتين. لم تكن مائة أنثى، ولا ألف، ولا مائة ألف.. أناثي وأطفال، ورجال يصرخون على مساحة عالمنا المسكون بجوره.. وغدره عبر كل بلاد.. وفي كل وادٍ.. وتموت الصرخة في الشفاه على وقع موت الحياة ممن ننتظر منهم الانقاذ والنصر ونحن سادرون وواهمون.
لا يفوت الشاعر العشماوي وهو يتحدث عن ضحايا الحضارة الحاضرة.. حضارة الاستلاب المادي، والثقافي.. والأخلاقي لا يفوته ان يذكرنا بها من خلال رؤيته الشعرية الجميلة متسائلا:
«أين الحضارة؟ إنها أكذوبة
كبرى تردد.. والشهادة زور
بنيت على جرف الهوى، فأساسها
متهالك، وسياقها مبتور»
ويعود في نهاية قصيدته.. وفي نهاية رحلتنا الممتعة معه عودة البحث عن ابتسامة غائبة قد تبدو خلف اسارير غائمة يجللها ضباب حزن قد يطول ويطول:
«يا بسمة الطفل التي ذبحت على
شفتيه عذرا فالطريق عسير
يا عرض ليلى مزقوك، وقومنا
أكل.. وشرب هانئ وسرير
وقرار مؤتمر تموت حروفه
قبل الكتابة، والغياب حضور»
وتمتد به صرخة الشكوى وهو يودعنا، ونودعه إلى لقاء متجدد آخر:
«يا صرخة الثكلى سمعتك والأسى
نار، ودقات الفؤاد زفير
تستصرخين.. وفي مسامع قومنا
وقر، فلا وعي ولا تدبير»
انتهت الرحلة بعد جولة ممتعة مع شاعرنا العشماوي داخل عربات حزنه الذي أرجو ألا يطول.

الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321
فاكس 2053338

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
كتب
وراقيات
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved