Culture Magazine Monday  19/02/2007 G Issue 187
قضايا
الأثنين 1 ,صفر 1428   العدد  187
 
ظاهرة استعجال الأدباء الشباب في كتابة سيرهم الذاتية..!!

 

 
*الثقافية - علي بن سعد القحطاني:

السيرة الذاتية تعد وثيقة مهمة يحررها المبدع في مراحل متأخرة من حياته، وفيها يرصد تجاربه المبكرة والمواقف السلبية أو الإيجابية التي تعرض لها طيلة عمره، وعن الخلاصة التي توصل إليها من خلال عكوفه في محراب العبقرية والإبداع، إلا أن القارئ يلحظ وعلى وجه أخص ظهور المدونات في العالم الرقمي واستعجال الأدباء الشباب في تدوين سيرهم الذاتية سواء كانت منجمة أو فصولاً كما هو مشاهد في بعض المواقع الثقافية على شبكة المعلومات (الإنترنت)، وهناك من ينوي كتابتها بشكل مفصل في كتاب مستقل.

و(الثقافية) تطرح هذه القضية على الأكاديميين والمثقفين للاستئناس برؤاهم حول مغامرات الأدباء الشباب لخوض غمار السيرة الذاتية واستعجالهم تدوين ذكرياتهم.

المصطلح

في البداية أحالنا الدكتور صالح بن معيض الغامدي في مناقشاتنا ل(ظاهرة استعجال الأدباء الشباب لكتابة سيرهم الذاتية) إلى تعريف مصطلح السيرة الذاتية، وكونها تعني الكتابة عن الحياة أو حول جزء معتبر من سني الحياة، وظاهرة التعجل في كتابة السيرة الذاتية معروفة في الثقافات على المستوى العالمي، وليست خاصة بأدبائنا في العصر الحديث، بل هناك في تراثنا القديم من كتب سيرته مرتين: مرة موجزة ومرة مطولة كالسيوطي وهناك نماذج أخرى.

انفعالية

وعن تقييمه لتلك السير أشار الدكتور صالح الغامدي إلى أن الكتابة المبكرة عن تلك التجارب من قبل الأدباء الشباب قد تكون كتابة انفعالية بالحدث، أما لو كتبت في مراحل متأخرة من حياتهم؛ أي بعد عشرين أو ثلاثين سنة من تلك الأحداث والتجارب التي عاشوها فإنها سوف تكتب بطريقة موضوعية وناضجة، وأوجز الدكتور صالح بن معيض الغامدي ملاحظته لتلك السير المبكرة في ثلاث نقاط:

1 - من أهمها أن كون المبدع لا يستطيع أو غير مقتنع أو راضٍ بما وظفه من حياته في إبداعه الأدبي سواء أكان من خلال الشعر أم القصة أم الرواية..؟ ويرى المبدع أن السيرة قد تكون أكثر تعبيراً عن حياته وعن شخصيته.

2 - تبدو لأبعاد (السير ذاتية) للشخصية الأدبية في الشعر أقل وضوحاً وبروزاً منها في الرواية والقصة، ولذلك عندما تكتب رواية فيقال أحياناً: إنها (رواية سير ذاتية) لكن لا يقال: (قصيدة سير ذاتية)، وأغلب من يتورط في هذه الظاهرة هم الشعراء.

3 - السيرة الذاتية في وقتنا الحاضر من أكثر الأشكال الأدبية إغراءً وتشويقاً وانتشاراً (موضة) وجاذبية للقراء، وهذا يغري الأدباء بالتعجل في كتابة سيرهم الذاتية.

الإرهاصات

فيما يرى الدكتور عبدالله بن عبدالرحمن الحيدري أن تلك المقالات الذاتية لبعض الكتاب لا يمكن تصنيفها في مصطلح (السيرة الذاتية) بل يمكن وصفها بأنها نواة للسيرة الذاتية المقبلة للأديب، ودعا إلى تشجيع الأدباء الشباب والأخذ بأيديهم لمزيد من التجويد والإتقان، فقال:

تطرح (المجلة الثقافية) سؤالاً مشروعاً عن مغامرات الأدباء الشباب لخوض غمار السيرة الذاتية، واستعجالهم تدوين ذكرياتهم وتجاربهم في هذا الصدد، وقد وصفت السؤال بأنه مشروع؛ لأن كتابة السيرة الذاتية أو أجزاء منها ترتبط في الأذهان بكبار السن والمشاهير، ويكاد يوصف العمل السيري بأنه العمل الأخير للأديب والمتوج لأعماله.

وهذه الخصيصة للسيرة الذاتية بوصفها جنساً أدبياً هي التي تميزها عن باقي الأجناس الأخرى التي نستنكر الإبداع فيها من الشباب، بل نشجعهم ونأخذ بأيديهم لمزيد من التجويد والإتقان.

ومع اهتمامي بجنس السيرة الذاتية، فإنني لم أقرأ عملاً حتى الآن لأديب شاب، وربما قصدت (الثقافية) بعض المقالات الذاتية لبعض الكتاب التي تنشر هنا أو هناك، وفيها قص لبعض التجارب والمواقف، وهذه لا يمكن أن نصنفها في حقل السيرة الذاتية التي تعني التأريخ لحياة إنسان وفق تسلسل زمني مع العناية بالشرط الأدبي.

على أنه يمكن وصفها بأنها نواة للسيرة الذاتية المقبلة للأديب، وبوابة أولى للولوج في إطار السيرة الذاتية إذا تمكن كاتبها في المستقبل من تطويرها وإضفاء لحمة على أجزائها، بحيث تشكل سيرة ذاتية مترابطة.

وليس لنا أن نستنكر على الأدباء الشباب أن يخوضوا هذا اللون من الأدب، ويمكنهم أن يستفيدوا من شكل اليوميات لتكون أساساً متيناً لسيرهم الذاتية في المستقبل دون تخمين واعتماد على الذاكرة التي يصفها حمد الجاسر - رحمه الله - بأنها خوانة!!

السيرة الذاتية في المملكة منطقة لا تزال بكراً أو أشبه بالبكر، وأراهن شخصياً على كتاب الرواية والقصة المبدعين في أن يقدموا لنا في القادم من الأيام أعمالاً تضاهي الأعمال العربية المتميزة، أو تتفوق عليها.

السيرة التخييلية

يتحدث القاص سعيد الأحمد عن تجربته في كتابة السيرة التخييلية، إذ ما يزال يصر على رأيه أنه من المبكر جداً على أدبائنا أن يكتبوا سيرهم الذاتية، ويقول: أعتقد أن أدباءنا غير مهيئين لكتابة السيرة الذاتية في الوقت الحالي، وتجاربهم التي خاضوها لا تستحق التوثيق كسيرة مستقلة، ولدينا إشكالية تكمن في جُبن الكُتاب المحليين في كتابة سيرهم الذاتية وتحسسهم من المجتمع الذي ربما يحاكمهم ويدينهم في بعض المواقف الصريحة والمعلنة، بالإضافة إلى تخبط الأكاديميين واختلافهم في ماهية المصطلحات وتعريفها.

وأشار القاص سعيد الأحمد إلى تجربته في مجال (المدونات) وقال: أنا أؤمن بكتابة السيرة التخييلية، ولدي عملان في مسودتين في ذلك، الجزء الأول: تتناول سيرة حياتية لشخص متخيل من صباه إلى عجزه، تحكي عن شخص يتلقى تعاليم ربانية في البيت ثم يصادف الشيطان في مدرسته على باب فصل أولى جيم الدراسي، وتبدأ تلك الشخصية في خوض هذه المعركة ما بين الله بكل جمالياته وما بين الشيطان وما يحمل من قبح في داخله، ويبدأ يكتشف الفتى أن هناك كثيراً من الأشياء لا تنتزع إلا بالقوة، وهذا الجزء يقع في خمسين صفحة.

أما الجزء الثاني من السيرة التخييلية، فهو تنقل الشخصية ما بين الحياة المعاشة اليومية والحياة المتخيلة في ذهنه، لذلك يتخيل أنه يمر بتجارب حياتية ومواقف حدثت في أكثر من عصر.

اللحظة الإبداعية

ويرى الأستاذ عبدالله السمطي أن كتابة الأدباء الشباب لسيرهم الذاتية يعد أمراً طبيعياً في هذا العصر الذي يموج بوفرة شبكات الاتصال وانتشار وسائط المعرفة، كما أن تلك السير تعبر عن اللحظة الإبداعية الآنية، ويقول:

يتمثل توجه بعض الأدباء الشباب إلى كتابة سيرهم الذاتية في هذا البحث الذاتي، والتأمل الذاتي الكثيف الذي أخذ يطغى بوجه عام على مختلف الكتابات الإبداعية في الشعر والقصة القصيرة والرواية.. إن هذا التوجه يأتي بوصفه صدى للكتابة الذاتية التي تنأى عن القضايا الكبرى، وعن سطوة الإيدلوجيا، والدعاية الحديثة العابرة، والمناسباتية. من هنا فإن كتابة السيرة الذاتية تعد تعبيراً عن هذه اللحظة الإبداعية التي نحياها، إن هذه الكتابة تأتي لأن التجربة الذاتية التي يعايشها المبدع اليوم حافلة بمختلف الأحداث المتدفقة، لقد منحت التقنية وعصر الاتصال اللحظة الراهنة عشرات الأحداث اليومية، ثمة تدفق للأحداث والوقائع والأخبار بشكل طاغ، ثمة تنقل للأمكنة والأزمنة والهواجس عبر المخيلة والحواس، وعبر القراءة والاطلاع الذي بات ميسراً جداً من خلال وسائط المعرفة والاتصال المتعددة، هذا كله جعل الثقافة تتسم بالكثافة، وبالوفرة المعلوماتية، وجعل الكاتب والأديب والمثقف محملاً بعوالم من الرؤى والتأملات والأسئلة، ومن هنا فإننا لا نستغرب هذا التوجه لدى الشباب لكتابة تجاربهم الذاتية، أو سيرهم الذاتية، فما يتم تلقيه وتحصيله اليوم أكبر وأكثف وأوفر مما تم تلقيه وتحصيله لدى أجيال سابقة، ووفرت شبكات الاتصال وانتشار وسائط المعرفة في الصحف والدوريات والكتب والمطبوعات عوالم شتى من المعارف.

إن ما يحدث من كتابة مبكرة للسير الذاتية هو أمر طبيعي، ومحبب خصوصاً أنها تطلعنا على تجارب شابة مكثفة في قراءة الحياة الشخصية المبدعة للمجتمع، وللمواقف، والأحداث المختلفة، بغض الطرف عن نوعية هذه القراءة أو تلك، كما أن عهد السير مهمة للكشف عن العناصر الإبداعية والثقافية التي يسعى القارئ أو الناقد للوصول إليها لدى مبدع ما، أو تضيء له أسئلة عن مرحلة محددة.

السير الذاتية التي قد يكتبها الشباب أمر طبيعي، بل وضروري في هذا العصر المتسارع، بأحلامه، وخيالاته، واختراعاته، وثقافاته.

الذاكرة

كانت للشاعر أحمد اللهيب تجربة في كتابة السير الذاتية بعنوان: (أنا والرحيل والرياض) نشرت في الموقع الإلكتروني (جسد الثقافة)، والذي دعاه إلى كتابتها كما يقول: ربما أخشى أن تنخرم الذاكرة، وأن تتساقط أوراق العمر دون أن أسجل شيئاً من حياتي!! كانت (أنا والرحيل والرياض) المنشورة في جسد الثقافة تاريخاً زمنياً مختلفاً من حياتي، الزمان والمكان والأحداث كلها مختلفة عن سابقها وعن لاحقها، ولذا كانت الكتابة عن تلك المرحلة التي قضيتها في الرياض وهي تمتد إلى (عشر سنوات) ضرورة ملحة في نظري، لأن الأحداث التي عشتها بين متناول ذاكرتي، وعهدي بها قريب، ولذا بادرت بتسجيلها، وهي أيضاً تنفيس لخواطر ومشاعر أحببت أن أذكرها، وأن أقدمها لقارئ كما هي بصدق وشفافية، دون أن يأكل الدهر عليها ويشرب، أو يطمرها سريان العمر والنسيان، فتصبح أثراً بعد عين. ومن جانب آخر كانت تلك السنين العشر مسرحاً لأعمال كثيرة وأدوار متباينة، وهي جديرة بالحضور والتسجيل، ولعلها تكون نواة لسيرة ذاتية كاملة أكتبها عن مراحل مختلفة وأضعها فيما بعد بين دفتي كتاب.

الإنترنت

يشير الأستاذ صلاح القرشي إلى أن انتشار المواقع الثقافية في شبكة المعلومات أسهم في نشر كثير من السير والمدونات، إذ يقول:

ربما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أن مسألة كتابة السيرة الذاتية أو كتابة نتف من المواقف الشخصية والمشاعر والعواطف في مراحل مختلفة من العمر هو أمر له علاقة بانتشار الانترنت والمدونات وسهولة النشر.

لكنني لا أعتقد هذا.. بل أرى أن هذا النوع من الكتابة موجود منذ القدم.. بل إن وجود ما سمي باليوميات أو المذكرات هو أمر قديم جداً.

وعلى المستوى المحلي لعلي أتذكر بعض كتب الأديب والشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل.. (هكذا علمني وورد زورث) و(الفنون الصغرى)..

في مثل هذه الكتابات امتزجت السيرة الشخصية مع الطرح الأدبي والفكري فشكلت قيمة أدبية ممتعة وجميلة..

المسألة في نظري تكمن في الموهبة قبل كل شيء.. وفي كيفية تقديم السيرة نفسها.. رغم أنني أفضل أن يقدم الكاتب أو الأديب أو الفنان نفسه من خلال أعماله الأدبية، من خلال قصصه أو رواياته أو قصائده او أعماله الفنية. ثم يمكن له بعد ذلك أن ينشر سيرته الذاتية أو الأدبية كما فعل ماركيز في (عشت لأروي).

لكننا أيضاً يجب أن ننتبه إلى أن توفر وسيلة النشر السهلة والمباشرة لابد له أن يساهم في خلق أنواع ونماذج أخرى من الكتابة..

هكذا وجدت المدونات الشخصية وتحولت من خلالها تلك الدفاتر الشخصية التي يخبئها الإنسان في مكتبه إلى سير تنشر للجميع.. ولم تعد السيرة الذاتية مقصورة فقط على المشهورين والناجحين بل بإمكان أي شخص أن يسجل حكايته الخاصة.. وينشرها.

لكن كيف يمكن تقييم مثل هذه السير، وهل لها أن تشكل إضافة إلى الأديب أو إلى الأدب..؟ هذه في نظري مسألة أخرى يحكمها الزمن نفسه.

السيرة الافتراضية

كما يتحدث الأستاذ حامد بن عقيل عن تجربته في مجال (السيرة الذاتية) الذي يراها عملاً إبداعياً قابلاً للكتابة في أي عصر وعلى يد أي كاتب بغض النظر عن الفئة العمرية التي يكتب فيها ويقول:

لا أدري إن كانت تجربتي (سيرة افتراضية) التي نشرتها في كتابين هي ما يرشحني للمشاركة في هذا المحور. على أية حال، يبدو لي أن هناك علاقة وثيقة، في أذهان العامة، بين مفردة (سيرة) وبين التحولات الزمنية القابلة للرّصد. لكن هذه التحولات، حين ترتبط بدالة الزمن فحسب، تعطي معنى التاريخ الشخصي كفعل كتابي يتجه نحو نشر الأنا على الملأ بأسلوب تسويقي بحت.

بالطبع، مفردة السيرة تحتاج هنا إلى إخضاع طوعي لمعناها القاموسي، وهو ما سيخرجها من حيز ضيّق إلى حيز واسع يعطي عدّة معاني؛ من أهمها: الهيئة، الطريقة، المذهب، الحالة، السلوك. فلا تغدو السيرة مجرد أن يدوّن الكاتب تفاصيل حياته وأعماله، بل تتجه نحو تدوينه للراهن بوصفه حالة (هيئة) طريقة، وهو تدوين إبداعي يخرجها عن مجرد الحفر في الماضي الذاتي إلى تدوين الأنا الآن بكافة تجلياتها الفكرية والإبداعية. ولهذا، لن يكون من الملزم للكاتب أن يبلغ من الكبر عتيّا حتى يكون مؤهلاً لسرد أرشيفه الحياتي والإبداعي، بل سيصبح ملزماً له أن يرافق فعل السيرة مراحل متعددة من حياته فتغدو مراجعة ذاتية لكل مرحلة عمرية مر بها، مع كونها شاهداً على مرحلة اجتماعية وثقافية تتزامن مع وقت إنجاز الكاتب لسيرته.

وعليه، يكون فعل كتابة السيرة فعلاً إبداعياً قابلاً للكتابة في أي عصر وعلى يد أي كاتب بغض النظر عن الفئة العمرية التي يكتب فيها فرهانه هنا هو الإبداع وليس التسويق لذات قرب أفولها، فبالغت في استعادة ماض قد لا يعني للقراء الكثير.

فن وإبداع

ويرى الأستاذ بدر عمر المطيري أن السيرة الذاتية تأتي خلاصةً لمسيرة حياةٍ حافلة بالتجارب والأحداث المختلفة، وهذا ما لا يتوافر عند الأدباء الشباب الذين قد يستعجلون ويسارعون إلى كتابة مدوناتهم ويقول:

كتابة السيرة الذاتية فن وإبداع.. ومنذ القدم ومبدعو الكلمة يحرصون على إطلاع القراء على بعض الجوانب المهمة في حياتهم.. وحتى في عصرنا الحاضر لايزال الشعراء والأدباء.. والمبدعون بشكل عام يدوِّنون سيرهم الذاتية تماماً كما يفعله أساطينُ السياسةِ في كتابة مذكراتهم السياسية اللصيقة بتجاربهم الذاتية.

ومن المتعارف عليه أن السيرة الذاتية تأتي خلاصة لمسيرة حياةٍ حافلةٍ بالتجارب والأحداث المختلفة لهذا تأتي في نهاية المطاف أو حين يشارف العمر على نهايته وقد رأينا بعض المبدعينَ في مشهدنا الثقافي الحاضر يسارعون إلى تسجيل سيرهم الذاتية وهم لمّا يزالون شباباً أغراراً برغم عدم اكتمال نضجهم الثقافي وربما لا يملكون أصلاً شروط وأدوات الكتابة الذاتية و(السِّرُّ) في هذا - كما يظهر لي - (النرجسية) التي تتلبس صاحبها إضافةً إلى شعوره الجاد بضغط الظروف المحيطة به وإحساسه بمضيِّ العمر واقتراب النهاية دون أن يعرف القراء عنه شيئاً.. لهذا يسارع المبدع في الحديث عن سيرته إمَّا على شكل روايةٍ أو قصصٍ قصيرة أو حتى شعراً وقد يكون في هذا الاستعجال فائدة للقراء لكنها فائدةٌ مبتورةٌ إذا لا تكتمل الصورةُ في النهايةِ إلا حين تكتمل قدراتُ المبدع.. القدرات العقليةِ والروحيةِ والتجارب الحياتية التي هي أساس كل سيرة إنسان عظيم يستحق الخلود في فنه وإبداعه.

البوح

ويرى الأستاذ عواض العصيمي أن السيرة الذاتية كان ضمن ما اتهمت به الرواية المحلية في بداية انتشارها ويلحظ أن شبكات الانترنت تحتفي بالمدونات والسير الذاتية للأدباء والكتّاب الشباب ويقول:

موضوع السيرة الذاتية، كان ضمن ما اتهمت به الرواية المحلية في بداية انتشارها، أي منذ سنوات قليلة من الآن، حيث وصف بعضها بأنها مجرد سير ذاتية، وأن كتابها إنما كانوا يكتبون فصولها من تجاربهم الشخصية. غير أن هناك فرق بين كتابة السيرة الذاتية بمعنى الترجمة الذاتية لحياة المؤلف، والسيرة الروائية النصف صادقة كما عبر أندريه جيد، وكما ذكر في كتاب (السيرة الذاتية في الأدب العربي) للدكتورة تهاني عبدالفتاح شاكر. الأولى عرفها الباحث محمد عبدالغني حسن، وهي (أن يكتب المرء بنفسه تاريخ نفسه، فيسجل حوادثه وأخباره، ويسرد أعماله وآثاره ويذكر أيام طفولته وشبابه وكهولته، وما جرى له فيها من أحداث تعظم وتضؤل تبعاً لأهميته). أما الثانية فهي بحسب التعريف الذي نسب إلى أندريه جيد (: لايمكن ان تكون المذكرات إلا نصف صادقة، ولو كان هم الحقيقة كبيراً جداً، فكل شيء معقد دائماً أكثر مما نقوله، بل ربما تقترب الحقيقة أكثر في الرواية). هناك بالطبع تداخل بين السيرة الذاتية، كما تقول المؤلفة، وبين غيرها من الأنواع السيرية، كالتأريخ، والسيرة الغيرية، والمذكرات، واليوميات، والرواية، غير أن هذا ليس موضوعنا في هذه المشاركة المتواضعة.

بناءً على التعريفين السابقين، يمكن تقسيم الكتابات المحلية إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول، سيرة ذاتية حافة ومعلنة وظاهرة كما جمعها الدكتور الخويطر في كتابه (وسم على أديم الأرض)، وهذه لا تسمى رواية بالمعنى الحديث للرواية، وإن كانت تدخل في باب الحكي الأدبي. أما القسم الثاني، فيستدعي الكاتب فيه جزءاً من سيرته وجزءاً من خياله فيؤلف من الاثنين تركيبة سردية تقترب من الحقيقة تارة، وتبتعد تارة أخرى، ما يجعلها غير خاضعة بشكل كبير لمفهوم السيرة الذاتية المتعارف عليه، إذ تتداخل الحدود الواقعية والحدود المتخيلة فتبدو كتابة اتكأت في تحبير أحداثها على ذاكرة قد تكون عاشت الوقائع المسرودة، ولكن من دون أن تتنكر لسلطة الذاكرة الروائية القائمة على التخليق الفني وإيقاد المخيلة في عتمة البوح الواقعي. أما القسم الثالث، فشأنه شأن الرواية المنتمية إلى حقل الرواية بمفهومه الإنسان العام، مع التأكيد على نقطة مهمة وهي أن الروائي لابد أن يتسلل منه إلى روايته شيء من ذاته سواء تنبه لذلك أم لم يتنبه له، لكن هذا لا يضع العمل في الإطار السيري الذي نتحدث عنه.

* لماذا الكتّاب الشبان عندهم ذلك الاستعجال في كتابة سيرهم الذاتية؟

- في الواقع، لم ألحظ ذلك الآن، وإن بدت العملية على شكل محاولات قليلة متفرقة (في الانترنت مثلاً)، فإنها على المستوى التأليف الورقي ماتزال غير موجودة، أو هذا ما وصل إليه اطلاعي.

الأصوات الجديدة

ويشير الأستاذ محمد المنقري إلى أن من حق كل شخص أن يعلق صفحات حياته على نوافذ الضوء لاسيما أن رويت بصدق ويقول:

يبدو لي أن الظاهرة انعكاس لكثير من التحولات التي طرأت على مجريات الحياة المعاصرة حيث أصبح الفرد ضمن منظومة من الصراعات المتشابكة متعددة الأطراف لا يعرف بالضبط من يقبض على دفة السفينة، ويدعي كل شخص - مهما صغر دوره - مزيداً من المهام، ويؤدي مجموعة من التحركات لصالح البشرية جميعها فكل فرد يدفع أجزاء من حياته لتحسين فرص الحياة، وتنويع المشهد الجماعي.

وتبعاً لذلك من حق كلِّ شخص أن يعلق صفحات حياته على نوافذ الضوء، ويمنح روحه أشكالاً من الشراكة الجماعية والتآزر مع الآخرين حين تغدو النفس بعيشها ونجاحها وشطحاتها وعنفوانها ونزقها، وربما خيباتها جزءاً من عالم أشمل وأجمل يتدثر بأيقونات الكتابة وفوانيسها.

المرء المعاصر والكاتب على وجه الخصوص خرج من ربقة المؤسسات التقليدية مستفيداً من تقاليد جديدة وافتراضية لتحقيق ذاته بعيداً عن الصواية والتنميط والقولية، وهي إسهامات خدمت الإبداع والمبدعين إلى حد كبير وربما كان من إفرازاتها تعميق ثقة الكاتب بنفسه، ومنحه الفرصة لتقديم ذاته والاعتماد على منجزه الحياتي والفني.

والعالم التقني والالكتروني الراهن يسمح بتعدد الأصوات لكنه في اللحظة نفسها يجعل النبت الأكثر بهجة أمام تحدٍ صعب يتمثل في قدرته على لفت الأنظار في ظل تزاحم شديد وغوغائية أحياناً تدفع إليها حالات الفرحة بالانعتاق من قيود الرقيب وتزايد خفق الأجنحة المحتفلة بالحياة الجديدة.

لا أعرف بالضبط من قال ذات يوم (إن حياة كل إنسان مهما كانت تافهة ستكون ممتعة إذا رويت بصدق) غير أنها شهادة عظيمة في سبيل ترويض الأصابع النقدية التي تصنع القوالب أحياناً، وتبرع في ترويج النجوم، وتصنع التماثيل الثقافية والقمم الأدبية في سياق صناعة النجم وليس الاحتفاء بالنص البارع والأنيق والمحرِّض على الحياة.

التقنين النقدي الجاهز قد يرفض الأصوات الجديدة، أو يرى في حياة الأسماء المغمورة مضيعة للوقت، لكن الكاتب البارع في خلق الفضاءات حين يمتلك القدرة على استضافة الآخرين إلى خزائن ذكرياته وطرقات رحلته اليومية متحرراً من النسق التوثيقي والتاريخي الذي فُرِضَ عليه من بعيد ليتدخل حيناً في إضفاء طعم خاص على بعض التفاصيل،أو تحريك الشخوص باتجاه الحياة التي فقدت منه أو حُرِم منها، أو يترك صفحات عمله فسحة لأشخاص يتوق إليهم يرى فيهم بعض ملامحه الضائعة أو عمره المفقود فيحتفي بهم من جديد وهم يتخلقون في عالمه السردي الذي قد يرى فيه البعض تقريراً نمطياً، أو يوميات عابرة في حياته منشغلين بالتلصص بين الكلمات لإشباع نزوات الترصد لديهم، أو امتثالاً لرؤية تقتدي بالصحافة الصفراء في عَقْد مقارنات بين الحياة اليومية للكاتب وبين نَصّه الإبداعي بهدف الإدانة أو التصنيف، وليس التعامل مع النص باعتباره حياة جديدة تتقلص فيها الفواصل العام والخاص والسري والمعلن والحلم ووعثاء الواقع.

باختصار يمكننا القول: إن كثيراً من الأعمال السردية الجميلة نبعت من السيرة الذاتية وأطيافها، وفي هذه اللحظة وقع بين يدي خبر عن رواية جديدة للمصري علاء الأسواني تحمل عنوان (شيكاجو) وهي امتداد ل(عمارة يعقوبيان) روايته الأولى التي فاضت بكثير من تفاصيل تعكس قدراً من حياة كاتبها وسيرته الشخصية الأمر الذي دفع بعض ساكني العمارة الفعليين إلى رفع قضية عليه ذات يوم بعد كشفه أسراراً من حياتهم اليومية.

فلاشات قصيرة

ويلحظ القاص عبدالواحد الأنصاري إلى أن هناك نزوى لدى الأدباء وعلماء العربية منذ القدم إلى تدوين بعض مشاهد حياتهم مما يروى عن أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي وأبي حيان التوحيدي، كما يلاحظ أن هناك نزوعاً بشكل عام لدى المثقفين والأدباء في شتى العصور إلى تدوين مذكرات عن صباهم وأسفارهم مثل كتابات رفاعة طهطاوي وطه حسين وقبلهما في الأدب الفرنسي جان جاك روسو وغيرهم من معاصريه، كما أن هناك كتابات مماثلة في السيرة الذاتية لمحمد شكري (الخبز الحافي) وعبدالفتاح أبومدين (الفتى مفتاح) وما كتبه (القشعمي) عن سنوات طفولته في كتابه (بدايات).

ونستنتج من كل هذا الركام إن التأخر في تدوين السيرة الذاتية لم يكن من أولئك الكتاب بسبب انتظار منهم متعمد حتى يصلوا إلى مراحل عمرية متقدمة بل الدافع الحقيقي في كتابته هو شيوع الأفتتان بهذا الجنس السردي أو الشبه سردي في العقود الأخيرة.

لذلك لا أستغرب أن يقبل الشباب على حميا هذا الأمر وبخاصة أن كل من كتبوا ذكريات صباهم وشبابهم تمنوا لو أنهم كتبوها قبل ذلك بفترة طويلة.

أما بالنسبة لي فلا يمكن أن أسمي المقالات الأدبية أو المقالات التي كتبتها في مناسبات خاصة لا يمكن أن أعتبرها سيراً ذاتية حتى وإن تضمنت تطويلاً أو تركيزاً على فترة معينة من عمري الماضي (القصير جداً) ومع ذلك فلدي الآن كُتيّب صغير بعنوان (شرفات) عن بعض مشاهداتي التي أعتقد أنها استحقت التدوين، وكل ما تستحق تسميته أنها فلاشات من الذاكرة فقط وليسة كتابة سيرية مقننة أو مقصودة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة