الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 19th June,2006 العدد : 158

الأثنين 23 ,جمادى الاولى 1427

صدى الإبداع
حمزة شحاتة (1909-1972)(5-8)
د. سلطان سعد القحطاني

ذكرت في الحلقة الماضية أن حمزة شحاتة وضع قوانين ومعادلات تفرق بين الرجل والرجل الفاضل، وهو يعني بالرجل الإنسان بصفة عامة، فذكر القوة = الحياء، الجمال = الرحمة، والحق= العدالة. وهو بهذه المعادلات يفرق بين الرجولة والفضيلة، أو لنقل: الرجل، والرجل الفاضل. فالرجل، هو ما اكتملت فيه الصفات السابقة، أما الرجل الفاضل، فهو ما تحققت فيه صفة واحدة فقط (الجمال)، فقد يكون خالياً من القوة، ومن الحق، ومكتفياً بالجمال. ويبرر لمستمعيه وقرائه عن إسقاط القوة والحق عن الفاضل، أو تجريد الفضيلة من هاتين الصفتين بقوله: (وأنا لا أمتهن الفضيلة بهذا التجريد القاسي، ولا أغض من قيمتها إنما أريد التحديد. فإذا كانت الفضيلة تهب لتأخذ، لم تكن قوة، ولو كان هذا الأخذ من وراء ستوره الكثيفة، لذة فكرية أو متاعاً نفسياً أو مطلباً فكرياً.. وإذا لم تكن الفضيلة إيماناً صارماً بالتضحية، والجهاد الصادق للحق والعدالة، لم تكن حقاً، ولو بقيت بعد جمالاً ظاهر الفتنة للعيون، وصوفية تغذي المشاعر، ولا تكون الضمير).
إن حمزة شحاتة في محاضرته - هذه - يكشف الكثير من تركيب شخصيته، وتأثره بالعظماء في القديم والحديث، وفي مقدمة ما تأثر به شخصية الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، فقد استشهد على رجولته بمقولته المشهورة لعمه، وأحب الناس إليه (والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما فعلت، حتى يظهره الله أو أموت دونه!).
ومن تحليل شخصية حمزة شحاتة نجد أنها قد تبلورت في المواقف التي مرت معنا: من موقفه مع الموظف الذي رفض طلبه لأنه لم يعط الاسم الثلاثي، إلى موقفه مع موظف القنصلية السعودية في القاهرة، عندما أراد أن يوثق عقد زواج ابنته، ومن قبلها رفضه الجلوس في فصل ليس طلابه في المستوى الذي يرغب أن يكونوا زملاءه، إلى إنكاره للمقدمة التي كتبها لشعراء الحجاز، إلى طلبه إسقاط اسمه من كتاب وحي الصحراء لجامعيه (محمد سعيد عبدالمقصود، وعبدالله بالخير) إلى محاولة قريبه تعويضه عن بعض حقه. ولو تتبعنا حياة حمزة شحاتة لوجدناها على هذا النمط منذ اليوم الأول في حياته إلى اليوم الأخير. ولو شاء أن يتنازل عن بعض حقوقه، وأن يداهن الآخرين لوجد أكثر مما وجد غيره، من المال والرتب، لكنه فضل الرجولة على الفضيلة، فالرجولة عنده لا تقبل القسمة، فالحياء واحد لا ينقسم، والرحمة واحدة، والعمل واحد، والقسمة نقص، وهو لا يرضى بالنقص، بل يشعر به ليكون حافزاً على الكمال. وكان مفطوراً على ذلك في تكوينه الداخلي، وقد عززه بالعناد والجهاد في سبيله، وله في العظماء خير مثال أعلى، فقد استشهد بخير البشرية (صلى الله عليه وسلم) وبسقراط الذي شرب السم كي لا يتقهقر عن مبدئه، وسعد زغلول، لم يرض بحل وسط مع المستعمرين المحتلين لبلاده. ويرى أن هؤلاء يتمتعون برجولة كاملة، وإن كان البعض منهم يتمتع بنوع من الفضيلة.
لم يكن حمزة شحاتة في تصلبه وعناده في الكثير من المواقف بالرافض لكل شيء، بل هو الرافض لما يخالف قناعته وبأن ما يرفضه فيه خلل، بل أكثر من ذلك، فرفضه لم يأت اعتباطاً لمجرد الرفض، بل يأتي عن علم ونقد معرفي، فما وجدنا شيئاً رفضه إلا وله مبرراته العلمية، فقد كان ينشد الكمال في كل شيء ويمد يد العون لمن يحتاجه، ممن يرى أنهم بحاجة إلى مساعدته، ويجد في نقصهم سبيلاً إلى الكمال، بل إنه يحاول سد هذا النقص، وخاصة عند الناشئة من الشباب، ويروي الدكتور عبدالله الغذامي بعض المواقف الغريبة في حياة حمزة شحاتة، التي رويت له من بعض المقربين من شحاتة، أنه كان يساعد الناشئين بكتابة مقالاتهم، ومن ذلك ما كان يكتبه لعبدالله عريف رداً عليه حول موضوع (النقد والجمال)، وهذا سر لم نكتشفه إلا متأخرين، فقد كان يجد النقص سمة كل مبتدئ، ومن واجب الآخرين مساعدته لتخطي هذه العقدة واثبات وجوده، فشعوره بالتحدي - سواء مع نفسه أو من الآخرين - منبعه الشعور بالنقص، وليس النقص - كما ذكرنا آنفاً - بما يعوض عنه بالوهم، لكن بما يعوض عنه بالتحدي العلمي، حيث يقف مواقف الرجال، كما هي نظريته، فكان سريع النجدة، كبير الثقة بالآخرين، صافي السريرة، وبعض هذه الأمور جلبت له التعاسة في حياته وأثرت في نفسه، بل صدمته، وزالت الصدمات الخارجية، بمرور الزمن، وبقيت الصدمة الداخلية ملازمة له إلى آخر يوم في حياته.
يذكر الكثير من معاصريه والمقربين منه بعض المواقف النبيلة، مع أنه لم يتحدث عنها فيما كتب، فقد ذكر الشيخ محمد علي مغربي في كتابه (أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر الهجري) بعضاً من مواقفه الانسانية، فهو الذي أوصل الشاعر أحمد قنديل إلى رئاسة تحرير جريدة (صوت الحجاز) حيث رشحه لدى الشيخ محمد سرور الصبان، سنة 1355- 1936م. حيث كان الصبان رئيساً للشركة العربية للطبع والنشر، والجريدة من امتيازها.
من المؤكد أن حياة حمزة شحاتة لا تختلف عن حياة العباقرة والمفكرين، حياة ذات علاقة وثيقة بالشقاء والمعاناة، والصدمات، ولعل العنوان الذي وضعه لكتابه (حمار حمزة شحاتة)، وقد جمع فيه بعضاً من مقالاته، التي نشرها في صوت الحجاز، وتحدث فيها عن الجمال في الفن - بصفة عامة - كان انعكاساً للمعاناة التي كان يشعر بها، نتيجة الظروف التي مر بها إلى آخر يوم في حياته، ولم يتنازل عن مبدئه الذي درج عليه من أول يوم دخل فيه المدرسة، والعنوان في دلالته العبقرية يوحي بالتهكم، مما يدور في الحياة، فشحاتة لم يجد الجمال فيما يكتب أو يرى في هذه الحياة، ولذلك اتخذ الحمار رمزاً لهذا الجمال، وإن كان مصاباً بعقدة الكمال، وقد نشدها في كل شيء، حتى في الحمار، ذلك الكائن المظلوم، فهو الغبي في نظر البعض، والصبور في نظر آخرين، والعنيد إذا شاء العناد، فهل وجد حمزة هذه الصفات في البشر؟ أعتقد أنه لم يطلق هذا العنوان من فراغ، بل وجد في حماره الرمزي، الكائن الوحيد الذي يمكنه أن يتحمل أفكاره، كما هي الحال مع عمار الحكيم، وقصة (نائب في الأرياف) فقد وجد كل منهما في حماره مخلوقاً يتحمل أفكاره، كما هي، ويقف مدافعاً عن آرائه في الحياة، ويرى (أنها عقيدة وجهاد) ويتحدث عن معنى الجمال، هل سيذهب أدراج الرياح، أم تبقى منه ذكرى خالدة في النفس؟!!.
(الجميل المفقود يبقى جميلاً في النفس، ولا يفقد سماته وتأثيره ومزاياه الفاتنة، لأن الزمن لم يعد جزءاً من حقيقته الزائلة. والمؤلم تبقى صورته المحزنة أو المثيرة أثراً تتردد به صور أشباهه وبواعثه) وهذا الألم يظهر واضحاً في حياة شحاتة من خلال ما يكتب تحت ستار الفلسفة الروحية، فالجميل في حياته مفقود، وأثره باقٍ على الدوام، أما المؤلم - إن كان جميلاً أو ضده - فيبقى ماثلاً في مخيلته. إن هذا الصراع في حياته لم يأت من فراغ، فقد جاء من الصدمات التي وقف لها بالمرصاد ووقفت له بكل المراصد، وتغلبت عليه في النهاية، وبقي صلباً في مواجهة هذه الرياح، وهو يعرف أنها ستكلفه أكثر مما يطبق، لكنه فطر على طبع لم يستطع، بل لم يحاول أن يغيره. فأدبه صورة منه وهو صورة من أدبه وسلوكه في الحياة، والتعاسات التي قابلته فجرت فيه ما كان يكنه ويداريه، ولو لم تكن هذه أو تلك لما ترك لنا ينابيع صافية من أدب صادق مع النفس، وتعبيراً فذاً جعل منه انساناً خالد الفكر صادق التعبير، مع نفسه ومع الآخرين، وعندما نعود إلى نفسية المبدع القلقة، وما وراءها من دوافع خلقت لنا أدباً صادقاً جياشاً بالعواطف، فجرتها الأزمات والصدمات. وهذه سمة لازمت كل المبدعين، تؤكد ذلك الدراسات العلمية التي أجريت على عدد كبير من أصحاب الإبداع، فعندما سئل كليبنسكي عن سبب عدم وجود تقليد مأثور عن عبقري سعيد في الحضارة الغربية، أجاب بشكل مباشرة: (وهل كان بمقدور رجل سعيد أن يكتب هاملت؟). ولا يعني هذا أن غير المبدعين - إذا ربطنا الإبداع بالعبقرية - سعداء على الدوام، لكن الفرق يكمن في أن المبدع ذو حساسية عالية عن غيره، ولديه من الوسائل التعبيرية الشيء الكثير، ويستطيع أن يبيح بمكنونه في وقت ما، وليس من الضرورة بمكان أن يحدده بنفسه، بل أن الحدث والقريحة هي التي تقوم بالفعل نفسه في وقت تحدده هي.
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved