الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 19th June,2006 العدد : 158

الأثنين 23 ,جمادى الاولى 1427

التقويض الفرويدي (4)
سعد البازعي

المؤرخ الألماني اليهودي بيتر غي هو أحد أبرز دارسي فرويد، مثلما أنه أحد أبرز مؤرخي حركة التنوير، وهو ممن يقولون بالربط ما بين يهودية فرويد ونتاجه الفكري، على الرغم من أن أطروحته في قراءة التراث الفرويدي تقوم على أطروحة (تنويرية) ترى أن السبيل الأصح لقراءة فرويد إنما تكمن في وضعه في سياق التنوير الأوروبي بما فيه من عقلانية ولا دينية، أو (وثنية)، كما يحب غي نفسه أن يصف التنوير في مؤلفه التأريخي حول تلك الحركة الأوروبية في القرن الثامن عشر.
ومن هذا المنطلق يبدأ غي كتابه (يهودي بلا إله: فرويد، الإلحاد وصناعة التحليل النفسي) استعراض الآراء التي تؤيد ربط فرويد والتحليل النفسي بالانتماء اليهودي، وهي آراء تأتي في طليعتها مقولات فرويد نفسه سواء في كتبه أو في رسائله مما يؤيد ذلك الربط ومما وقفنا على بعض نماذجه.
يشير غي إلى ما ذكرته ابنة فرويد، آنا، في محاضرتها الافتتاحية حين عينت أستاذة لكرسي باسم أبيها في الجامعة العبرية في القدس عام 1977، حين قالت: إن التحليل النفسي انتقد لكون مناهجه غير دقيقة، وأن نتائجه ليست قابلة للاختبار بالتجربة، لكونه غير علمي، بل ولكونه (علماً يهودياً).
وبغض النظر عن كيفية النظر إلى تلك الصفات المهينة، فإن الوصف الأخير، في تقديري، وفي الظروف الحالية، يمكن أن يكون لقبا تشريفياً.
يرى غي أن الإشارات إلى الارتباط بين التحليل النفسي أو فرويد نفسه باليهودية لا توازي في أهميتها حقيقة أن فرويد ظل علمانياً طوال حياته وأن إيمانه باستقلالية العلم كان أقوى من أي انتماء ومن أية إشارات قد يكون ألمح إليها عكس ذلك.
ويؤكد تلك العلمانية في تقدير غي أن فرويد تربى في بيت علماني أساساً، فأبوه كان من اليهود الإصلاحيين الذين حرصوا على فصل أبنائهم عن اليهودية سواء كدين أو كثقافة ولغة، فلم يكن فرويد يعرف اللغة العبرية مثلاً.
وحين انصرف فرويد إلى النشاط العلمي فإن ذلك انعكس على نتاجه، كما هو متوقع.
فالتحليل النفسي، كما يؤكد غي، ليس يهودياً ولو كان كذلك لاتضحت سماته في المادة التي اشتغل عليها، سواء في مرضاه أو في أدلته ومؤشراته، فالمرضى الذين خضعوا لتحليله كان منهم يهود مثلما كان منهم أغيار من المسيحيين، وحين أجرى فرويد تحليلاته لهم فقد اطلع على نفس الليبيدو ونفس اللاوعي، أي نفس العقل وهو يعمل بمكبوتاته واستعلاءاته، وهذه كانت كلها في تقدير فرويد، كما يؤكد غي، ذات بعد إنساني شمولي وليست محصورة في عرق أو جماعة دون أخرى.
من ناحية أخرى، ينظر غي في العلاقة التي توقف عندها بعض الباحثين ما بين فرويد والتصوف اليهودي لا سيما التراث القبالي، كما فعل ديفيد باكان (سيغموند فرويد والتراث الصوفي اليهودي).
ويرى غي هنا ألا علاقة البتة بين الاتجاهين وأن الأنسب هو الوصف الذي أطلقه أحد الأطباء الفرنسيين حين قال: إن التحليل النفسي ليس إلا (وثنية جديدة).
الارتباط الذي يقبل به غي بين التحليل النفسي هو ذلك الذي يأتي من موقع فرويد الاجتماعي أو الفئوي ضمن مجتمع مسيحي مغاير، أي من خصوصية الوضع الذي عاشه فرويد بوصفه يهودياً غير مقيد بما قيد به كثير من المسيحيين المنتمين إلى التيار الثقافي والاجتماعي الرئيس.
والنص الذي يؤكد هذا هو الخطاب الذي وجهه فرويد إلى أعضاء منظمة بناي برت الذي سبقت الإشارة إليه.
ففي ذلك الخطاب يقول فرويد ما نصه: (إنني أدين لطبيعتي اليهودية بالخاصتين اللتين صارتا لا غنى عنهما لأسلوبي في الحياة، لأنني يهودي وجدت نفسي متحرراً من كثير من التحيزات التي حدت من قدرة الآخرين على استعمال عقولهم، وبوصفي يهودياً كنت مستعداً للانضمام إلى المعارضة وللعمل دون موافقة (الأكثرية المتضامنة).
إن الأسس العقلانية التنويرية التي يقوم عليها المشروع الفرويدي هي دون شك قوة فاعلة في ذلك المشروع وبدونها يصعب تصور التأثير الذي تركه فرويد في تطور الثقافة الغربية بل الإنسانية عموماً، لكن تلك الأسس لا تعمل وحدها ولا ينبغي من ثم الاكتفاء بها كأداة تفسيرية لفهم ذلك المشروع.
هنا نحتاج إلى أن نعود إلى أحد أهم الأعمال التي أنجزها فرويد وهي نظريته في تفسير الأحلام. ففي كتابه تفسير الأحلام يشير فرويد إلى مصدرين استمد منهما نظريته المعروفة التي تقوم على أساس أن الأحلام تعبير عن رغبات مكبوتة في اللاوعي نتيجة للرقابة التي يمارسه العقل الواعي.
المصدر الأول هو الحدس الشعبي أو ما تتضمنه الثقافة الشعبية مما يسير في الاتجاه الذي سار فيه فرويد وإن كان ذلك الحدس بعيداً عن العلمية التي سعى فرويد إلى تأسيسها والتي تعد إضافته المهمة لعلم النفس.
أما المصدر الثاني فهو الأفكار التي عبر عنها بعض الرومانسيين الأوروبيين مثل الشاعر الألماني شللر، فمن تلك الأفكار الرومانسية أن الوعي يعوق الإبداع حين يفرض نفسه على المخيلة، وهو ما يتفق معه فرويد إذ يعلق على ما يقوله شللر: (في حالة العقل المبدع، كما يبدو لي، يسحب العقل مراقبيه من البوابة فتندفع الأفكار كيفما اتفق).
هذا الاندفاع هو الذي يجعل الأحلام تطفو على سطح الوعي مشوشة ومتناقضة أو غير عقلانية، لكن فرويد طبعاً يوظف العقلانية نفسها، أو أداة التحليل العقلي العلمي، كما يسميه، في استكشاف دلالات عقلانية كامنة تحت الفوضى الظاهرة.
ويعني هذا اجتماع المصدرين اللاعقلاني والعقلاني في النظرية الفرويدية لتفسير الأحلام، العقلاني يعمل على فهم اللاعقلاني، ولكن الأخير هو الأساس.
ومما يعنيه هذا هو أن النظرية الفرويدية تضم عقلانية التنوير التي ورثها صاحب التحليل النفسي من خلال ما تلقاه من تربية وحققه لنفسه من ثقافة، إلى جانب لا عقلانية الرومانسية التي ورثها أيضاً ضمن التراث الأوروبي القريب منه مكاناً وزماناً والتي قامت على محاربة العقلانية الصارمة بوصفها عائقاً للعملية الإبداعية وللكشف الرؤيوي الذي طالما آمن الرومانسيون بإمكانية تحققه وبحثوا عنه.
الناقد الأمريكي لايونيل ترلنغ (المتوفى في السبعينيات من القرن العشرين) أحد الذين تبنوا التوجه النفساني الفرويدي في التحليل الأدبي وله وقفة تحليلية أمام التأثير الرومانسي على فرويد في مقالة ضمن كتابه (المخيلة الحرة).
يقول ترلنغ: إن التحليل النفسي أحد المظاهر البارزة للأدب الرومانسي في القرن التاسع عشر من حيث إن الأدب الرومانسي كان في مجمله بحثاً دائباً عن النفس وسعياً لإطلاق العواطف بوصفها مصدراً لتحقيق الذات والإبداع.
هذا بالإضافة إلى اكتشاف الرومانسيين مخاطر العقلانية إذ تتحول إلى عامل رقابة وكبت تجاه نوازع النفس وسعيها إلى التحرر.
يؤكد هذا كله موقع فرويد من صيرورة الثقافة الغربية وتشكله ضمن معطياتها، ليس في شكلها التنويري فحسب وإنما في أشكالها الأخرى الأكثر تحديداً من أدبية وفلسفية وعلمية.
وكان فرويد نفسه واعياً بذلك وحريصاً على إبرازه في كتاباته، كما في تأريخه لحركة التحليل النفسي حيث لا يكتفي بالإشارة إلى أطباء وعلماء من طراز الفرنسي شاركوا كما مر بنا وإنما أيضاً إلى فلاسفة مثل شوبنهاور ونيتشه، على الرغم من أن إشارته إلى الفيلسوفين الألمانيين اللذين عاصرهما أواخر حياتهما هي لتأكيد تشابهه معهما دون أن يكون هناك تأثر بهما، فهو يقول إنه عرف من الآخرين عن تشابه نظرية الكبت لديه بما يقوله شوبنهاور في كتابه المعروف (العالم كإرادة).
وقد اهتم آخرون فيما بعد باستكشاف العلاقة التي يشير إليها فرويد فكتب الروائي الألماني توماس مان مقالة حول (فرويد والمستقبل) أشار فيها إلى تشابه مفهوم (الهذا) Id في نظرية فرويد ومفهوم الإرادة Will عند شوبنهاور مستخلصاً من ذلك أن (فرويد، عالم نفس اللاوعي، هو ابن حقيقي لقرن شوبنهاور وإبسن).
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved