الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 19th June,2006 العدد : 158

الأثنين 23 ,جمادى الاولى 1427

ابتسامة جديدة
ميرا الكعبي - أوكلاهوما
هل لي أن أبتسم؟ منذ المرة الأخيرة التي رأيت بها وجهي في المرآة لم أرَ سوى بقايا ملامح، لم أرَ وجهي منذ أن انفجرت تلك العبوة الناسفة فيّ! لازلت تلك الذكرى تجتاح منامي ككابوس يأبى أن يغادرني بسلام، كنت ماضية في الطريق بين المدرسة والبيت، ولا أتذكر أين حصلت تلك اللحظة التي لم أر فيها وجهي بعد ذلك اليوم، وأصبحت بعدها من فتاة جميلة إلى كائن مسخ بلا وجه!
تحيط بي الأربطة والضمادات منذ ذلك الحين، الأطباء يحاولون التوصل إلى قناع يسمح لي بالحركة والسهولة، دون أن يثير رعب وتساؤل الآخرين عن وجهي الذي احترق، لم أر وجهي من ذلك الحين، لكن كابوس ليلي ينتابني، فأستيقظ ليلاً أهرول إلى المرآة، أفك عن وجهي تلك الأربطة البيضاء، فيصرعني المنظر، أين شفتاي أنفي بشرتي الجميلة الملساء وحتى خلايا دموعي احترقت لم يعد لي دموع! وأظل أصرخ، أصرخ، أصرخ بلا توقف! فأستيقظ فزعة، أتحسس الأربطة، وأحمد الله أنه كابوساً، ولا أجرؤ أن أفكر بالنظر لوجهي حتى لو كان ذلك من وراء الأربطة.
مضت أشهر، لازلت حبيسة غرفة في المستشفى، الأطباء يخبرونني بأنهم يدرسون أول حالة زرع وجه في العالم، البعض يطمئني بأن العملية سوف تنجح، وسأكون محظوظة لأني الأولى التي تخضع لعملية كهذه، لكن بقيت المشكلة، أنهم لا زالوا يبحثون عن متبرع متوفى تكون ملامح وجهه وعمره ملائمة لي. تثير فيّ هذه الفكرة الرعب، وكيف لي أن أحمل وجه شخص ميت؟! لكن وجهي الذي أبصره في الحلم كل يوم يثير الرعب أكثر.
مضت سنة، الأمل في مقلتي جف مداده، بدأت أسأم فكرة الإنتظار، ربما كانت خدعة كي أعتاد على حقيقتي الجديدة، كائن بلا وجه! كم يذكرني ذلك بقصص الأفلام السينمائية، الآخرون يتحاشونني، كم أثير الشفقة! كم أصبحت مستوحدة! ومن يرغب بمجالسة فتاة بلا وجه، لا شيء مني بقى، امتلأ جسدي بالجروح والحروق، كم سئمت العمليات الجراحية، وكل واحدة تؤدي إلى أخرى، في سلسلة لا متناهية، متى ينتهي هذا الرعب يا إلهي؟ هل لي أن أبتسم؟ أمنحني يا إلهي شفتان لأبتسم. امنحني يا إلهي عيناي ودموع كي أبكي! أمنحني وجهاً جميلاً كما كنت!
مضت سنتين، لم تبق عملية ترميم وزرع جلد إلا وخضعت لها، ومع ذلك لم يتمكنوا أن يعيدوا لي وجهي! كل العمليات تصير إلى فشل واخفاق، يقال أن وضعي حرج، وحالتي الطبية صعبة، ولا يوجد الأمل من الخلاص منها سوى بعلمية زراعة وجه، لكن لا متبرع هاهنا في هذه الديار!
كنت نائمة، كان ذات الكابوس حيث أفك الأربطة وأبدأ بالصراخ، لكن يداً امتدت نوحي لتوقظني، عج الضجيج في الغرفة، السرير يتحرك، هنالك فتاة توفيت في مساء هذا اليوم في حادث سيارة، يقال إأنها في مثل سني، ووجهها سيكون ملائما لي! الطبيب يبتسم لي بفرح قال هذه اللحظة الحاسمة لا بد أن تصمدي وتصبحي قوية! السرير لا زال يتحرك، لمحت الأضواء تسطع مكثفة نحوي، كان هنالك سريراً آخر بجواري، حاولت النظر إليه، لكن الصورة في عيني استحالت إلى ضباب كثيف ولم أعد أسمع شيئاً.
لا أعرف كم استمرت العملية، ربما يوم أو يومان، لكنني لم أستيقظ سوى بعد ثلاثة أيام، ظننت بأنني سأستيقظ بوجه جديد، لكن الأربطة ذاتها لازالت تقيدني، الفرحة في عيني ماتت، يقول الأطباء بأن علي أن أبقى مدة طويلة تحت الأربطة، حتى يتقبل جسدي وجهي الجديد! وعلي أن أكون أكثر عزلة مما سبق، كي لا أصاب بعدوى خلال الفترة التي أبقى بها بلا مناعة.
الثلج يتساقط ثم يذوب، ثم تكتسي الأرض بلون الربيع، تشرق الشمس ثم تعود الأشجار لتنفض عنها أوراقها، ليعود الثلج ليصبغ الأرض والسماء بلون البياض، وأنا ليس لي سوى هذه النافذة، أرقب تحولات الطبيعة، وأفكر لماذا لا تنمو الوجوه مثل الأشجار وتتجدد كل ربيع؟ مضت سنة أخرى من العزلة، سئمت كل العمليات، سئمت كل تلك الأدوية والحقن، متى أتحرر يا إلهي من كل ذلك؟! امنحني وجهاً آخر لأبصر نورك فيه؟ لأبصر عظمتك، امنحني يا إلهي كل الوجوه الجميلة في هذا العالم، ليبعد عندي شبح ذلك الكابوس الذي يطاردني في منامي.
كم تمنيت الموت في تلك اللحظة التي انفجرت بي العبوة الناسفة، على أن تتركني بلا وجه، أستطيع أن أنظر ذلك في عيون الآخرين، استطيع أن أسمع أصواتهم الداخلية التي تبوح لهم كم هي مسكينة وتدعو للرثاء ألم يكن الموت أرحم بها من أن تعيش بلا وجه؟
أتذكر حينما كنت أسأل أمي بدلال وشقاوة: هل أنا جميلة؟ كانت وقتها تغضب مني، وترفض الإجابة، تقول لي: لا داعي أن تكوني مغرورة! لا يجب أن تنظري إلى نفسك كثيراً في المرآة، الجمال جمال الروح! الآن حينما أتذكر ذلك أشعر بوخزة في صدري، لأنني لم أعد أجرؤ على السؤال. لكن أين جمال الروح؟ وهل هنالك من يستطيع معايشة إنسان بلا وجه؟!
أنام، وتستيقظ بداخلي كل ليلة كل كوابيس العالم، وحوش تطاردني بلا وجه، وآخرين ينزعون الأربطة مني وأنا أشعر بالخوف، لكن هذا الصباح حينما استيقظت، أخذني الطبيب إلى غرفة المعاينة، قال لي: اليوم نرفع الأربطة عن وجهك، سيكون بإمكانك أخيراً أن تنظري إلى نفسك في المرآة، وسأكون فخوراً بك، لقد حققنا نصراً كبيراً معك!
دق قلبي، خفت، لم أكن واثقة إذا كان بإمكاني بعد هذه السنوات التي مضت، أن أجرؤ ثانية على النظر إلى المرآة، قال لي الطبيب: لا تخافي، سيكون وجهك مزرقاً بعض الشيء، لكن ذلك سيزول بعد أيام من نزع الأربطة، وسيعود كل شيء طبيعياً.
بعد أن نزع عني الأربطة، اقتربت من المرآة، اغمضت عيني، وببطء فتحتهما، انتابتني الدهشة، كان هنالك وجه جميل يبتسم لي في المرآة! لم أعد أنا، لقد أصبحت أخرى!!!
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved