الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 19th June,2006 العدد : 158

الأثنين 23 ,جمادى الاولى 1427

محمد فالح الجهني
الخميلة
- (ربما كان هذا المكان موضع قبر قديم).. قال (فهد).
- (أنت تفارق بيت والدك لأول مرة، والأمر طبيعي).. فسر (مساعد) حالتي.
- (تعوذ من الشيطان.. واذكر الله!!).. نصحني (مقبل).
***
((كل منهما على صورتي تماما، كأنني توأمهما الثالث؛ طوليهما، بشرتيهما، انتصاب قامتيهما، عضلاتهما المفتولة، أكتافهما العريضة، شعريهما المسترسلين، شاربيهما الدقيقين، حتى الشامة تحت حاجبي الأيسر توجد تحت الحاجب الأيسر لكل منهما. وحدهما في الخميلة التي بدت بلا تخوم. لا يلوح في الأفق سواهما، لا رجل ولا طفل ولا امرأة. الخير عميم. الفاكهة تتدلى من الأشجار المتشابكة. الحبوب مكومة هنا وهناك. الأغصان تزدحم بالطيور. قطعان الظباء تهيم في الخميلة بلا عدد. الطبيعة بكر. الأرض خصبة مد النظر. المياه ينابيع وعيون متفجرة في كل بقعة. لكن سماء الخميلة كالحة، كئيبة، يكسوها سحاب شاحب، واقف لا يتحرك. مساء الخميلة دائم لا يتحول. الهواء ساكن تماما، لا يحرك غصنا أو ورقة نبات. الطيور تنتقل من غصن لآخر انتقالا آليا. الماء ينساب بلا صوت. المواشي والظباء تسير في قطعان صامتة. لا حفيف، ولا خرير، ولا هديل، ولا زقزقة، ولا صوت للحياة. كلاهما - في الخميلة - لا يكلم الآخر، ولا يلتفت إليه. لا يتبادلان النظرات ولو للحظة، حتى لو تلامسا بالأكتاف. كأن أحدهما لا يرى الآخر مطلقا).
***
عندما وصلنا إلى مقر عملنا الجديد، تنامى إلى أذهاننا سؤال واحد:
- (من أين سيأتي التلاميذ؟).
- (سندرس للجن هنا!).
- (يا لهذا الترف التعليمي؛ مدرسة جديدة في قلب الصحراء؟!)
- (هذه هي المدرسة.. فيها ستدرسون وفيها ستسكنون).. هتف دليلنا البدوي، ودلف إلى الداخل مشيرا لأن نتبعه إلى فناء قصير وخمس حجرات متناثرة أرجاؤه.
- (هذه الغرفة للإدارة، وهذه للسكن، وتلك لتحضير الطعام، والباقيتان فصلا الدراسة). وزع فهد الحجرات، إذ قد استقر رأينا على أن يكون فهد هو مدير المدرسة. ركب دليلنا البدوي سيارته الجيب، التي تشبه سيارتنا، وأدار محركها، ورفع يده مودعا:
- (أظنكم عرفتم الطريق إلى المركز، ومنه تعرفون الطريق إلى المدينة، لأي طارئ توجهوا إلى المركز فورا).
تعالى غبار الصحراء خلف سيارته، وقد قفل راجعا من حيث جاء بنا إلى هنا؛ قفر موحش، وأشجار يابسة، ولا ما يدعو إلى التصديق بأن ثمة مظهرا للحياة هنا.
***
(في لحظة من مساء الخميلة الدائم، كان كل منهما يرتدي بزة من جلد الغزال، وحذاء جلديا يمتد إلى منتصف الساق، شد برباط وثيق. وقد حمل كل منهما سيفا دقيقا بنصل طويل ذي حدين. كل منهما يشبهني تماما، أناملهما الطويلة، حاجباهما الدقيقان، حتى قذلات شعرهما الطويل تتدلى على أكتافهما كتدلي قذلتي. التقت نظراتهما للمرة الأولى، ركزا النظر من المحاجر إلى المحاجر، توقف كل منهما عن الحركة، وابتسم ابتسامة هازئة تنم عن كراهية. ازدادت الخميلة سكونا وقبحا. سحب كل منهما نظراته من محاجر الآخر، ونكص راجعا من حيث قدم).
***
- (هؤلاء الأطفال كالزهور في قلب الصحراء).
- (ما أن تشرق الشمس حتى يتقاطروا من أطراف القفار).
- (لا ندري من أين يأتون وإلى أين يغادرون).
- (يا لهؤلاء البدويات.. غزلان ترعى!).
- (شيوخ الصحراء كفيهم يهمي حكمة، حكاياتهم مسلية وذات معانٍ!).
في كل صباح تتحول الصحراء من حولنا إلى جنة مشرقة ملؤها الحياة والأمل.
***
(لم يعد الشر مضمرا بينهما. فقد استل كل منهما سيفه الدقيق ذا الحدين والنصل الطويل، وأشهره في وجه الآخر. أمسك كل منهما بقوة على مقبض السيف بيمينه بنفس الطريقة. أطلق كل منهما ذراته اليسرى ليحفظ توازنه بالأسلوب ذاته. وسطاهما في ضمور وسطي، إلا أنهما مشدودين بنسعين من جلد أحمر. باعد كل منهما بين ساقيه في وقفة قتالية. تلاقى النصلان تعالى صليلهما. صدى الصليل يزيد من رعب المكان ووحشته. شهوة القتل تفور، ورغبة الإقصاء تهيج. مع كل ضربة يلتقي فيها النصلان يقدح شرر لامع ينبئ عن قوة المتبارزين وصلابة النصلين. أصغت كل المخلوقات والجمادات في الخميلة إلى الصليل المخيف. توقفت الطيور عن حركتها الآلية. جمدت قطعان الظباء، ويممت في هلع نحو المتبارزين. جمدت الخميلة فوق جمودها. طال القتال، وانتقل المتبارزان من بقعة إلى بقعة تحت أشجار الخميلة. أثارا بأرجلهما رمل الخميلة الأسود، عكرا كثيرا من مستنقعات الخميلة وجداولها الرقراقة، سحقا كثيرا من العشب الأخضر، كسرا كما كبيرا من الأغصان).
***
- (طعم الجديان البرية عندما تتطبخ مع الأرز على نار الحطب.. ذو مذاق رائع!).
- (ما يزيدني شهية هو رائحة ودخان السمر المحترق التي تعبق المكان).
- (لقد أكرمنا هؤلاء البدو بهذه الولائم الأسبوعية).
- (الله يحييكم!!).. قالها أحد البدو مؤكدا سرورهم بوجودنا هنا، حاثا إيانا على عدم الكف عن الأكل. زادوا من كرمهم بأقداح القهوة العربية المعطرة بالهال، مع أطباق من التمر المعجون بدقيق الدخن والسمن، والشاي المحلي الممتزج بنكهة الجمر والرماد. كانت نسمات الصحراء لطيفة في طلائع الشتاء.
(في خضم القتال، قفز ضفدع بائس من مستنقع راكد، ليستقر في بقعة حطت عليها قدم أحد المتبارزين. سحق الضفدع في لحظة، فانزلق المقاتل واختل توازنه. ارتفع في الهواء وسقط على ظهره. تراخت، نتيجة للسقطة، يمينه القابضة على معصم السيف، فسقط السيف من يده. اقتنص الآخر الفرصة فركل السيف الساقط بعيدا. أصبح الأول أعزل، مستلقيا على ظهره، في وضع مكشوف. زاغت عيناه وجحظتا، وملأهما الرعب والهلع. ارتعد كحيوان ذبح للتو. تفصد عرقا غزيرا في لحظة توقع الموت خلالها عشرات المرات. لم يفوت الآخر لحظة النصر السانحة، فصوب ذؤابة سيفه إلى صدر الساقط حتى لامسته. لم يغرس السيف في صدره، ولكنه صوب نظراته النشوى بالنصر إلى محاجره. رفع الواقف ذؤابة سيفه من على صدر الساقط، واستبدلها بقدمه ممتها له. بقي مصوبا لنظراته الشامتة إلى محاجره. ثم رفع وجهه إلى السماء، التي ازدادت تجهما، وأطلق قهقهات بشعة عالية، فجفلت كل الطيور والبهائم في أرجاء الخميلة، مس، بذؤابة السيف، خد الساقط المستسلم، ووشمه بخدش مائل بامتداد خده الأيسر. نضخت الدماء من الجرح غزيرة، وانساحت، ترتوي منها تربة الخميلة السوداء).
***
- (شتاء هذه الصحراء ساحر رغم البرد القارص!).
- (ودعوه فالربيع على الأبواب!).
- (وما أدراك ما ربيع الصحراء، وبهجته، وأعشابه، ونفله، وأقحوانه، والخزامى!!).
أوافقهم أن هذه الصحراء جنة غناء، إذا ما تلمس المرء سحرها واستشعر جمالها، وليس بوسع أحدنا إلا أن يصبح جزءا من مكوناتها الرائعة؛ لكنهم لا يواجهون - مثلي - ما يجثم على صدورهم كل ليلة.
***
(رفع الواقف قدمه من على صدر الساقط، وسحب نظرته الشامتة من محاجره، والتفت إلى سيفه المرمي، حمله بيساره، فغدا مستحوذا على السيفين. جلس على صخرة سوداء قريبة واستوى عليها كاستواء ملك على عرشه، ممسكا بالسيفين، غارسا لذؤابتيهما في تربة الخميلة السوداء. رفع الساقط ظهره من على الأرض. تقرفص ووضع كفيه على خده الأيسر. استمرت الدماء تنز من بين أصابعه لأكثر من ساعة. بكى بكاء مريرا حسيرا سمعته كافة مخلوقات الخميلة ورددت جماداتها صداه اختلطت الدموع بالدماء. ثم انقطع الدمع، وكف النزيف وتيبس الدم. أطرق المهزوم خضوعا أفصح من خلاله عن رضاه بحياة العبودية. قهقه المنتصر عليا. بدأ زمن الخميلة في التقدم لأول مرة. انحسر السحاب الشاحب، وبدت شمس الخميلة مسائية كسيرة، ما لبثت أن غابت. بزغ على الفور من جهة الشرق، قمر الخميلة. كان بدرا كبيرا فوق المألوف، أبيض باهتا كالشيب. تكاثرت فجأة خفافيش قبيحة بأحجام متفاوتة ملأت سماء الخميلة. كانت الخفايش أكثر وضوحا عندما تمر في عين القمر التي تبدي حركتها الفوضوية. عين القمر تظهر سكون الأغصان وخلوها من الحركة. نساء جميلات تقاطرن بلا عدد من أنحاء الخميلة. لكنهن كن صامتات خانعات، أضفى وجودهن مزيدا من الكآبة على المكان. اصطففن بانتظام على جانبي العرش. أطرقن مع العبد تحت عرش السيد).
***
- (هذه ليست مجرد أحلام أو كوابيس التي يعيشها رفيقنا كل ليلة).
- (هزه.. لعل عينيه المتجمدتين تتحركان، لعل جسده المتخشب يلين!!).
- (يا إلهي كم يبدو وجهه ممتقعا، وعيناه مرعوبتين، يا لهذا العرق الذي يتفصد غزيرا من جبهته؟!).
- (فهد.. لا بد أن تكتب خطابا إلى الإدارة التعليمية بضرورة نقله إلى المدينة).
كنت أسمع - معهم - صدى صرخاتي في أرجاء المدرسة، وأسمع حوارهم وحيرتهم قبل أن يتمكنوا من إيقاظي. سهروا لأجلي حتى الصباح. عقد (فهد) اجتماعا بهيئة التدريس بالمدرسة، في وقت استراحة التلاميذ، تقرر بموجبه كتابة خطاب إلى الإدارة التعليمية باستغناء المدرسة عن خدماتي، وتوزيع حصصي الدراسية على ثلاثتهم، مع توصية بنقلي إلى المدينة. وكلف (مساعد) بمهمة السفر بي إلى المدينة هذا المساء.
***
(كان يوم السفر إلى المدينة غائما مظلما. وكانت هناك هضبة بعيدة على يمين الطريق إلى المدينة. تخيلت الخميلة تقبع فوق الهضبة البعيدة. العبد هناك يرعى المواشي بخضوع، ويجني الثمار ويقدمها للسيد بذل. السيد يتراخى على فراش وثير بجانب العرش، تحيط به نساء الخميلة الجميلات. تقارب زمان الخميلة في مخيلتي. مرت عقودها أمام عيني في لحظات. عاما بعد عام يزداد العبد قوة وصلابة، نتيجة للعمل المتواصل، بينما يزداد السيد نعومة وترفا بسبب الخمول والدعة. يصبح العبد في منتهى القوة ويكتسب بنية بدنية هائلة، وكلما حاول التمرد تلمس وشم الجرح في وجنته اليسرى فتذكر الهزيمة المرة وذلها الذي لا ينمحي.. تتراكم الشحوم يوما بعد يوم في جسد السيد الثمل دائما. تزيد حياة النعيم والملذات السيد وهنا على وهن.. أقشعر بدني هلعا. وعاد العرق يتفصد ساخنا من جبهتي).
***
التفت إلي (مساعد) بنظرة إشفاق، وتوقف لأداء صلاة المغرب، ثم وعظني في جلسة الاستغفار. ما زال الجو غائما، والطريق تخلو تقريبا من السيارات المسافرة، خيم الظلام حالكا على جانبي الطريق بعد غروب الشمس. بدت لي الطريق المعبدة، كجادة طويلة تتثنى بين أشجار الخميلة السوداء. خفق قلبي بشدة. كنت متأكدا من أن (مساعد) يسمع النبض الفاضح.. ويشفق.


mfjohany@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
مداخلات
الملف
الثالثة
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved