الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 19th July,2004 العدد : 68

الأثنين 2 ,جمادى الثانية 1425

فصل من رواية (القارورة)

من تقصّ قصة حزينة لها عندي هدية!
قالت جدّتي ذلك في غرفتها السفلية، بزجاجها المطلّ على حديقة المنزل ذات الحشائش الميتة، كانت تقول إن العشب ينمو مع الحكايات الحزينة، قررت أن نبدأ الحكي من أكبرنا سناً، ففكرت أختي نورة قليلاً، ثم حكت عن حصان مسكون بجنيّ عاشق، كلما رأى البدوية غزوى كان يصهل، فما كان من أخيها غازي صاحب الحصان إلا أن وضعها في غرفة فوق إسطبل الحصان كي لا يراها فيهيج، لكن الحصان الجنّي شمّ رائحتها في الأعلى، وصار يخبط السقف الضعيف برأسه حتى فتح فرجة صغيرة فرأى غزوى طاغية الجمال، مما جعلها تأخذ أغراضها على عجل، وتودع أخاها، بعدما اصطحبت معها عبدتها السوداء، وصارتا تركضان خائفتين، وتلتفتان كل لحظة إلى الخلف، والعمة غزوى تقول لعبدتها: تشوّفي ما ورانا أحد؟ فتقول العبدة وهي تنظر بعينيها الحادتين في وهج الصحراء: أشوف يا عمتي شيء كبر حبّة اللؤلؤ. ثم تركضان فتسألها، وتجيب العبدة: أشوف شيء كبر التمرة. ثم تركض العمّة غزوى وهي تجذب العبدة المنهكة من الركض، وتسألها: تشوّفي ما ورانا أحد؟ فتقول العبدة: أشوف شيء كبر الأرنب.. حتى أصبح الشيء بحجم الخروف، فقررت العمة غزوى وعبدتها أن تلجآن إلى شجرة طلح كبيرة، وصعدت العمّة أولاً، ثم تناولت بقجة أغراضها، ولحقت بها عبدتها، وما هي إلا لحظات حتى وقف الحصان الجنّي هائجاً تحت الشجرة وهو يحاول الصعود، ثم يحاول أن يحفر تحت الشجرة ليسقطها، حتى قالت له غزوى: يا حصان أخوي افتح فمك وأطيح فيه، ففتح فمه ورمت فيه عباءتها، لكنه بلعها دون أن يموت، ثم عاد يركل بقوائمه أسفل الشجرة، وأعادت الجملة: يا حصان أخوي افتح فمك وأطيح فيه، ففتح فمه فرمت فيه القدر، فالتهمه وعاد يرفع قوائمه كي يصعد الشجرة، فأخرجت مقصّها وفتحته عن آخره، وربطت مقبضيه بقطعة من كمّ ثوبها كي يبقى مفتوحاً عن آخره، وقالت له للمرة الثالثة: يا حصان أخوي افتح فمك وأطيح فيه. ففتح فمه وطوّحت بالمقص حتى نشب في حلقه، وحاول أن يبلعه كما فعل من قبل، لكنه سقط هامداً وقد مزّق المقص حلقه..
خلاص كفاية!
قالت جدتي، وتحوّلت بنظرها نحوي، مشيرة إلى أن أبدأ دوري في قص حكايتي، لكن أختي الصغرى مني، قاطعت:
* أنا يا جدتي أقول قصة!
ابتسمت جدتي، وهزّت رأسها موافقة، وهي تقترح تأخير حكايتي، فكانت منى تستخدم يديها كثيراً أثناء القصة، خاصة وهي تصف البنت العاشقة:
كانت هناك بنت شيخ قبيلة اسمها هيا، أحبت شاعراً متجوّلاً في البرّ، اسمه حسن، وهو أحبها وجعل كل قصائده وصفاً لها، وعندما شاعت قصائده بين القبائل، قرر أبو هيا أن يمنع على ابنته الخروج من البيت، ليس من البيت فحسب، بل أقفل عليها غرفة على السطح، ليس لها سوى شبّاك واحد، ولا يفتح بابها إلا عند تقديم الطعام لها، وهو خبز وزبدة فقط، وقد كان حسن يقف عند شبّاكها وينشد آخر قصائده، لتفتح الظرفتين الخشبيتين وتنظر نحوه في الأسفل ويبكيان معاً. مرّة نصحت عجوز محتالة حسناً وقد رأت حالته وضعفه وقرب هلاكه، بأن يطلب من معشوقته هيا أن تأكل نصف الزبدة، ونصفها الآخر تدهن به شعرها حتى يطول ويطول، وهي تغني له: جديلتي تطوّلي! ليتسلق بوساطته العاشق إلى غرفتها. وبعد شهور طال شعر هيا، وأصبحت تطويه بجوارها وكأنه جثة رجل أسود، وقد لاحظت الأم ذلك، وخشيت أن في الأمر خطة أو خيانة، فأخبرت الأب الذي استشار العجوز المحتالة، فاقترحت عليه الحلّ، وحين جاءت ليلة سوداء حالكة، ليس فيها قمر، جاء حسن تحت شبّاك معشوقته هيا، وقذف حجراً صغيراً، ففتحت الشبّاك وقد جهّزت شعرها، بأن ضفرته مثل حبال شديدة وقوية، وما إن رمت به إلى الأرض، حتى التقطه حسن، وشمّه ولثمه بحب، ثم قبض عليه بيديه وصار يصعد مستنداً برجليه على الجدار وما إن أصبح على مسافة قريبة من الشبّاك حتى أطلت العجوز المحتالة بجوار العاشقة هيا، وهي تضحك صاخبة بفم خالٍ من الأسنان، وأخرجت مقصاً كبيراً، ثم بدأت تقص الشعر وحسن يستغيث ويرجوها بأن تتوقف، وكذلك هيا تبكي وتحاول أن تتخلص منها، لكن كان هناك من يمسك جسم هيا بقوة، نعم كانت الأم تمسك بها، حتى جاءت العجوز على آخر شعرة فهوى حسن على الأرض ومات أمام عيني معشوقته، وسقطت هيا مغشياً عليها.
ابتسمت جدتي حتى بان سنّ الذهب في فمها، وهزّت رأسها مشجّعة منى، ثم نظرت نحوي بصمت، وبعد ثوانٍ قالت بصوت واهن ومرهق:
أعطنا قصتك يا منيرة.
* * *
كان هناك حطّاب من أهل نجد له زوجة يحبها، وقد أنجبت له ثلاث بنات، وحين أصبح عمر الصغرى ثلاث سنوات ماتت الأم، فحزن الأب حزناً شديداً، واعتزل الناس وترك عمله على جمله، ليهتم ببناته ويرعاهن، لكن الناس أشاروا عليه بأن يتخذ له زوجة ترعى بناته، وتساعده على العودة إلى عمله كحطاب، وبعد أشهر تزوج بعدما ضاق به الحال، ولم يعد يجد ما يستر به بناته، وكانت زوجته غاية في الجمال، فأحبها حبّاً شديداً، لكن زوجة الأب، كما في الحكايات دائماً، حقود ومحتالة، فقد أحسّت بالغيرة من الحبّ الشديد الذي يغدقه الأب على بناته الثلاث، خصوصاً الصغرى التي تقاسم الزوجة فراشها، فتنام بجوار والدها الحطّاب، بعد أن يفرش لها شماغه، فتنام قريرة العين على رائحة أبيها. بدأت زوجة الأب تظهر الضيق والملل منه ومن بناته، حتى وصل بها الحال أن تطلب منه الطلاق أو يرمي بناته في الصحراء كي يجدن من يرعاهن، ولأنه أحبها كثيراً ولا يملك الاستغناء عنها قرر أن يوافق على طلبها شرط أن ينتظر سنة كاملة حتى تكبر ابنته الصغرى وتستقل عن النوم بجواره، وافقت زوجة الأب، لكنها لم تتحمل أكثر من نصف سنة، ثم هددت مرة أخرى بعد أن كبر بطنها في بكرها، فأخذ الحطاب بناته الثلاث إلى الصحراء على جمله، وملأ زوادتين بالطعام والشراب، وبعد مسيرة نصف يوم، وعند حلول الظلام أناخ الحطّاب راحلته، وأنزل بناته الثلاث وهن فرحات بهذه الرحلة، ووضع زوادتي الطعام والشراب، وبعض الأغطية الصوفية، وغرّر بهن بالقول إنهم سينامون هنا هذه الليلة، وفي الصباح سيعودون جميعاً إلى البيت.
تمدّدت الصغيرة كعادتها على شماغ والدها الحطّاب، ووضعت يدها الصغيرة المحنّاة على صدره، ونامت.
لمحتُ فجأة دمعةً تطفر من عين جدّتي، وهي تحاول أن تواريها عنّا، بينما العبرة تكاد تخنق أختي نورة ومنى، ثم واصلتُ:
بعد أن مضى ثلث الليل، والحطّاب النجدي يذرف الدمع الغزير، وصدره يعلو ويهبط، رفع يد البنت الصغيرة عن صدره، ونهض حائراً بشماغه الذي ترقد على طرفه صغيرته المفضّلة، فما كان منه إلا أن أخرج المقص الذي جهّزه لهذه الغاية، وقصّ طرفه، ثم أخذ شماغه ولفّ به وجهه متقياً برد الصحراء، وغطّى بناته الثلاث بعد أن سمّى عليهن، وغادر.
في هذه اللحظة كانت الدموع لا تسيل من عيني جدتي فحسب، بل حتى أختيَّ كانتا تبكيان لدرجة أن منى أخفت رأسها بين ركبتيها وبدأت ترتعش بجسمها الصغير.
قامت جدّتي وأخرجت من خزانتها قارورة كبيرة على حوافها نقوش هندية، وحروف غير مفهومة، بلون فضّي لامع، وبداخلها كرات صغيرة وملونة من الحلوى، ثم ناولتني إياها، وهي تقول لي:
احفظي هذه القارورة، فقد تكون نجاة لحزنك.
بعد أن تقاسمتُ مع أختيَّ الحلوى الملوّنة احتفظت بالقارورة كي أملأها بأسراري، كانت أغلى صديقة وحافظة للسر، كنت أودع فيها ما يمرّ بي، وأفضي لها بكل همومي ومشاكلي دون أن تبوح لأحد، ودون أن تضيق بالهمّ أو الحزن.
في السابعة أذكر أنني اصطدت قبّونا أسود وديعاً، وهو حشرة تشبه الخنفساء، لكنه يأكل من عشب البّر، أعجبني أنه يأكل عشب البرّ وقد تذكرت مقولة جدّتي أن العشب ينمو مع الحكايات الحزينة، فقلت لابد أن معدة القبّون مليئة بالعشب والحكايات الحزينة، لكنني كلما وضعته على بطن كفي، مشى بقوائمه الرفيعة ودغدغني، وفي فورة ضحكي يسقط من حافة يدي إلى الرمل، فما كان منيّ إلا أن احتفظت به، ودسسته في فم القارورة، كي تمتلئ بالحكايات، غير أنني فوجئت به ميتاً، حاولت أن أقلب القارورة لعله يسقط، ولكن دون جدوى، فبكيت كثيراً، حتى اقترحت أمي كسر القارورة فانتفضت مرعوبة، ورفضت.
أخذت جدّتي القارورة وأقنعتني أنها ستحكي للقبّون حكايات مفرحة وتثير البهجة، حتى تتحرّك قوائمه ويخرج.
في اليوم التالي أعادت جدتي القارورة إليّ، وقد أنهت حكاية القبّون الأسود الوديع، لا أعرف هل حكت له حكاية فرح أم حزن فتحرّك، أم فتتت أجزاءه بإبرة الخياطة، ورمت نثار جسمه الصغير في حديقة الحشائش الميتة:
لا تضعي فيها الحي حتى لا يموت!
قالت لي جدّتي ذلك، وقد ناولتني القارورة، ثم أضافت وهي تهزّها في وجهي:
ضعي فيها الحكايات الميتة كي تعيش!
* فصل من رواية بعنوان: (القارورة) للكاتب تصدر مطلع الشهر المقبل عن المركز الثقافي العربي في بيروت الدار البيضاء
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved