Culture Magazine Monday  19/11/2007 G Issue 223
فضاءات
الأثنين 9 ,ذو القعدة 1428   العدد  223
 

ترجمة الشعر
عندما يترجم مَنْ ليس شاعراً شعراً لكبار الشعراء في العالم «2»
عبد المحسن يوسف

 

 

لنأخذ السيد كامل يوسف حسين مثلاً. إنه قدّم للعربية ترجمةً باهتةً لقصائد الشاعر الكبير بابلو نيرودا، وأصدرها عن (دار الفارابي) تحت عنوان (أيسلا نيجرا) من دون أن ينسى دعم ذلك العنوان بإشارة لها جاذبيتها: (الأعمال الشعرية الكاملة لبابلو نيرودا).

* حين تدلف إلى تلك النصوص وتقرؤها بتمعن تكتشف أن كامل حسين يركز على المعاني تركيزًا حرفيًا فيما لا تسعفه لغته (الناشفة) في تقديم ترجمةٍ أكثر انسجامًا مع مناخات الشعر، وهو ما يجعلك لا تعثر على أي إشراق داخلي لنصوص (نيرودا) التي قام بترجمتها. كما أنك لن تلحظ في تلك النصوص أي حركة بهية للمشاعر والمواقف والمشاهد وما يحدث على مسرح الحياة التي لا بد أن (نيرودا) صدر في جلِّ نصوصه الشعرية عن فوران تلك الحياة وعما يمور في أعماق النفس البشرية من أحاسيس واشتعالات وومضات تضيء وتلمع وتصطخب.. إنك في ترجمة كامل يوسف حسين لشعر نيرودا لن تقبض على شيء من ذلك أبدًا، وكل ما تعثر عليه محض نصوص تلفظ بعض المعاني الشديدة الوضوح من دون وهج ومن دون إدهاش؛ الأمر الذي يجعلك مصابًا بملل عريض وسأم بليغ، وقد تخرج من فضاء نص كما قد دخلت إليه.. فهو لا يترك في نفسك أثرًا ولا تحسُّ أنه منحك شيئًا لكي تتغير من الداخل، ولكي تتصالح مع نفسك، ولكي تتساجل مع عالمك، ولكي ترتب فوضاك أو تسعى إلى إذكاء فوضى الفوضى فيك من جديد!!...

ألم يرَ (ماركيز) أن مهمة الإبداع هي أنه يجعلك تكتشف ذاتك وأن تتغلب على مشاق الحياة ومتاعبها؟

* إنك حين تطالع ترجمة كامل حسين لقصائد الشاعر الكبير نيرودا ستجد نصوصًا عادية جداً، لا صور مثيرة، وليس ثمة مفاجآت من أي نوع على المستوى الفني.. مثلاً ما الذي يكمن في مقطع كهذا:

وأطلُّ في زيِّ الحداد

جهمًا، منكفئًا على ذاتي

سراويل قصيرة

سيقان نحيلة

وركبتان

وعينان تبحثان عن

كنوز فجائية!

* إنني - هنا - أضع يدي على مقطعٍ مرتبكٍ، مقطع مشاهده غير مترابطة، بدليل أن جزءه الأول لم يكن منسجمًا مع جزئه الثاني، إذ قفز قفزًا من مشهد ذلك الذي في زيِّ الحداد (وقد يكون الشاعر هنا يتحدث عن نفسه) لنقع كمن يهوي من شاهق على (سراويل قصيرة... سيقان نحيلة... إلخ) وهو وصف لمشهد يسرده الشاعر ولا بد أن سرده في لغته الأصلية أشد تماسكًا ولُحمةً من هذا الذي ترجمه كامل يوسف حسين..

* إنها عثرات فنية خالصة، لم يفطن إليها المترجم فيما كان متشاغلاً بنقل النص نقلاً حرفيًا عبر كلمات مباشرة، كلمات ليست ذات غنى، لم تستطع - وهي بهذا الفقر وهو فقر خالص - أن تذكي جمرة الشعر في هذين المشهدين، وبالتالي لم تُستفز مخيلة المتلقي الذي لا بد أن يكون قد رأى في الواقع مشاهد أكثر شاعرية من هذين المشهدين البائسين جماليًا..

* ومن قصيدة (أقاصيص حب: روزورا)، نقرأ معًا هذا المقطع:

(ما الحب إلا محور حياتنا

رفاه البدن، الوجيب،

الذي يولد ويبعث

استمرارية الجسد في النشوة)!!

* هل تسللت إلى قلبك مشاعر من أي نوع فيما كنت تقرأ؟ هل خفق الفؤاد؟ هل اضطرمت فيه نار الوجد، أو اخضرت فيه طينة الجسد؟

* إنه محض كلام بارد.. إنه محاولة لتعريف الحب بكلمات لم تتمثّل حرائق الحب، ولم تتلمّس مباهجه من داخل تجربة (نيرودا)، فأتت هذه الكلمات الباردة التي إن قمنا بلمسها فلن تحترق أصابعنا ولن نعثر على شهوة الاصطلاء، إنها دخان فحسب وليست نارًا أو سعيرًا كالذي يحدثه الحب، ولهذا أرى أن هذه الكلمات الباردة لم يأت ِصاحبها (وأعني حضرة المترجم المحترم) إلى نصوص نيرودا مدفوعًا بالمحبة؛ لأنه لو كان محبًّا لهذا الشاعر الكبير ولشعره ولتجربته لأنجز ترجمةً أكثر حرارةً وأشدَّ دفئًا، ولانعكس ذلك على النص المترجم وعلينا نحن معشر المتلقين، ولَتَرك ندبةً في القلب أو بعض حمى في الجسد.

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة