Culture Magazine Monday  19/11/2007 G Issue 223
فضاءات
الأثنين 9 ,ذو القعدة 1428   العدد  223
 

الأنوثة المطعونة في قصص زينب أحمد حفني
د. عبد الله أبو هيف

 

 

تعد قصص الكاتبة السعودية زينب أحمد حفني (هناك أشياء تغيب) شهادة طيبة على تطور السرد الأنثوي لأسباب كثيرة أذكر منها؛ أولاً دوران المجموعة بكاملها حول موضوع محدد هو حرية جماعتها المغمورة، فلا تزال المرأة عندها تنتمي إلى جماعة مغمورة تعاني وطأة العيش في شرط تاريخي واجتماعي قاهر، وثانيها هو مقدرتها الفنية العالية على صوغ سردي شديد الإيماء ضمن تحفيز واقعي غالباً ما يفلح في إنتاج دلالاته وتثمير غرضه، وثالثها تنوع نماذجها النسائية وتعدد مشكلاتهن، ورابعها ابتعادها عن التماهي السيري أو الذاتي مع نماذجها المقهورة، وخامسها ضبط المنظور السردي وتلوينه بترميز شفيف.

تهدي القاصة مجموعتها، على سبيل الترميز اللماح (إليه.. بالرغم من كل شيء (ص 7)، وفي (11) قصة قصيرة حوتها المجموعة، حيث يظهر التوق إلى الحرية لدى نساء في أوضاع مختلفة، وهن واعيات لشرطهن الاجتماعي والإنساني، فتتباين مواقفهن من حال إلى حال، مدركات لمصائرهن المعذبة.

تتجه المرأة في القصة التي تحمل عنوان المجموعة (هناك أشياء تغيب) إلى موعدها معه، في مطعم الروشة ببيروت، فقد بعثت له رسالة بالبريد الإلكتروني مبدية رغبتها في جسر من التواصل بينهما، وسرعان ما ينتصب الحاجز: مراودة توكيد الأنوثة وحريتها، وتوكيد الذكورة وقيودها وسطوتها. وهي اللعبة المستمرة في هذا الظرف، وكانت المعادلة الصريحة التي تتبدى في التعرية المتبادلة بينهما، وتعهدها أن يكون الأوحد في حياتها، فهو رجل شرقي الهوى أرفض أن يزاحمني شيء في عواطفي (ص 17)، على أن المرأة ترفض الخنوع في داخلها من جهة، وتعلن قبولاً أنثويا من جهة أخرى.

تتناول القصة، على وجه الخصوص تعذر الاتصال بين الرجل والمرأة، إذ سرعان ما جاهرت الأنثى بمعاداة الذكورة لتسلطها عليها، وخاطبته نافية للخنوع، وألا تتقبل ديكتاتوريته، فهو رجل معقد، مغرور لا ثقة له بالنساء! (ص13).

وتعالت انفعالية الأنوثة من الذكورة، واتهمته أن (النتيجة واحدة سواء كانت المبادرة منك، أم مني.. ألم تكن راغباً في لمس يدي؟!) (ص14)، ثم أعلنت تباهيها بأنوثتها، وتفاخرها بنجاحاتها على الرغم من طغيان الذكورة وهيمنتها، بينما واجهها الرجل ساخراً من تمجيدها لذكائها، وأدان حريتها على أنها امرأة رخيصة، فريسة من السهل اصطيادها(ص15)، وتفاقمت نبرته العدائية عند مخالفة خدش الحياء، وأشار إلى تجاربها القاسية، ورفضه للاعتراف بذاتها الخاصة.

أما هي فأكدت فشل العلاقة من جديد، بتأثير الضباب في رؤيته، (وهذا لا يعني وجود عيب قهري في شخصيتك، أو شخصية الطرف الآخر!) (ص16)، وانتقدت عشق الرجل للمرأة التي تظهر الضعف والاستكانة، وتبطن الحيرة والذكاء، وداهمته في دواخله، وأعلن أنه شرقي الهوى، ورافض لمزاحمة عواطفه.

وعاودت مخاطبته ليقبل الأنوثة ضمن خصوصياتها واستقلاليتها وإرادة الحياة عندها، فلم (يجد حرجاً في ضمّها، ثم استغرقا في حديث هامس) (ص18).

كشفت قصة (بيت خالي) عن مقدرة حكائية ماهرة في بنية سردية قوامها تحفيز واقعي مفعم بنبرة إنسانية موحية وداخلية في الوقت نفسه، فثمة انتقال ذكي بين الارتجاع والراهنية حين تمتزج صورة الفقدان ثقيلة ضاغطة على الوجدان، إذ فقدت ابنة خالها صفية التي تتلامح صورتها في صورة خالها نفسه. ثم دعيت للتعزية بوفاة خالها... وتتداعى أحزان فقدان الخال وأحزان فقدان صفية الذي لا يبارحها، ما تزال صورة صفية حية على الرغم من رحيلها المبكر بتأثير الحب، فقد تطوحت في الهواء عن السلم وسقطت على الأرض الصلبة لتموت بعد ثلاثة أيام؛ لأنها أرادت أن ترمي رسالة لصديق ابن الجيران، وكأنه نقد خفي للفصل بين الجنسين. وعندما خرجت من بيت خالها إثر التعزية، دمعت عيناها، و(أمرت السائق بالتحرك، أيقنت أني لن أخطو عتبة البيت مرة أخرى) (ص25).

نجحت المرأة في قصة (لم تكن تدري!) بتسوية قضايا التركة العالقة مع أهل زوجها المتوفي، ولعلها وقعت بحبّ المحامي من أول نظرة، ولا يفارقها عشقه، وعندما أفلح ماضيها، من وجهة نظرها، في كسب الدعوى، ركضت إليه، وأعلنت حبّها له، غير أنه عاجز عن التواصل معها، فقد تلاشى إيمانها بتملكه و(أحست بحاجتها إلى نسمة توقظها من كابوسها الضاحك الباكي) (ص17).

أظهرت قصة (أغنية منسية) ولع الذكورة بالأنوثة، وبالعكس، على أن يكون عابراً، وغير مستقر، فقد التقى بها في مقهاها بلندن، واستمعت إلى خطبته السياسية عن وضع بلاده العراقية البائس، على أن (الحرب أكبر وصمة في تاريخ البشرية. إنها دليل قاطع أن الإنسان ما زال بربرياً في دواخله!)(ص75).

ودعاها لربط أواصر المحبة والألفة بينهما في رحابة الحرية، بعيداً عن التلازم أو الالتزام، واعتذرت له عن دعوته لأنها لا ترغب التورط في علاقات عابرة، وقد اجتاحتها رعشة مفاجئة، وتلفتت جزعة، وعقدت ذراعي في بعضهما، (بتعبيرها)، أحكمت ردائي بقوة، طردت خيبتي، غادرة المكان بسرعة (ص78).

وهجت المرأة في قصة (وغسلت حياتها) الرجل، إذ قُبض على زوجها المدمن، وبدأت هي مع أولادها حياة جديدة، واعترفت علانية أنها مسرورة لخروجه من حياتها، وخلاصها منه، وأنها ستبدأ حياة مضيئة باستقلالها عن عبث الرجل وهدره للمرأة.

أبانت قصة (وسقط كوبي الزجاجي) نبرة أخرى لرفض التبعية للرجل، إيماناً باستقلالية المرأة، وها هي ذي تتذكر صورته ورحلتها معه إلى روما، وكيف رفضت أن تكون مطيته، وكيف اقتنعت أن الهرب هو أفضل الطرق للنجاة، فلاذت بنفسها، ومسحت دمعتين، وعادت لنبش أشيائها.

تبتعد قصص زينب حفني عن ذلك التماهي السيري أو الذاتي، فلا تقف عند مشكلة واحدة، ولا تنسب القهر إلى الرجل وحده، لأن الروح الإنسانية هي علامة الرجاء، ولا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى، كما في قصة (وغرقت في نفسي)، حين عرفت المرأة حكاية العم جابر الثري الذي صار أبله الحارة في جدة، لأن زوجته خانته مع رجل آخر، مما يعيد إلى البال قصة خيانة زوجها مع خادمتها الآسيوية، وطلاقها منه.

تناولت حفني في قصتها (امرأة فقدت وجهها) قلق المرأة من دخولها سن اليأس وخوفها من نهايتها كامرأة. وتشابك هذا القلق مع حكايات انتحار نساء في صقيع الشيخوخة، مما جعلها تقرر عودتها إلى الحياة بالعمل، غير أنها لا تفارق الخشية من سيرة المرأة وأثر صقيع الشيخوخة عليها، مما أنهك طاقتها، وأضعفها، فخمدت في الهزال، وكأن الرجل لا يقبل المرأة إلا في شبابها، فطلبت من خادمتها إغلاق الباب، (وغصت من جديد في بحيرة النوم) (ص48).

طالبت الزوجة البائسة زوجها بحقها في الحبّ والحياة في قصة (وباتت متورمة الجفنين)، وطالت سنوات عذابها، عند استئصال نهدها الأيسر من قبل طبيبها، قبل أن ينتقل الورم إلى نهدها الآخر، (بقاؤه فيه خطر على حياتك) (ص50)، ثم اتسعت الفجوة بينها وبين زوجها، وتأكدت أنه يعبث بمفرده في وعاء فحولته، حتى أنه، برأيها، يخونها، (هناك امرأة أخرى في حياته!) (ص52)، وأرعبها أن زوجها يتمنى موتها، وصارت الجفوة بينهما مؤذية، على أنه يمارس ذكورته بمفرده، فقتلته بأحد أمواس الحلاقة، و(مررتها ببرود على عنقه، انفجر الدم في وجهي، تناثر على منامتي، مفترشاً غطاء سريره، الرائحة الغريبة تختفي، تذوي، تذوب، جثوت على ركبتيّ، شممت بنشوة رائحة دمه الفاتر، وضعت رأسي على صدر زوجي، ورحت في سبات عميق!) (ص55).

لجأت القاصة إلى أسلوب الأمثولة في كتابة قصتها (الخرزة الزرقاء)، حين مهدت لها بعتبة احترازية مفادها أن وقائع هذه القصة حدثت (في مكان ما بأحد البلدان العربية) (ص16)، والقصة عن لقاء مفترض بين امرأة ورجل يحاكم النسوية العربية، ولكنه يندفع بشبق نحوها فتقاومه، إلى أن يحكم عليها، ويأمر الحارس بتقييدها. إنها الأنوثة المطعونة من ذكورة تتلبس نمط العيش والتفكير بعد ذلك، وهذا ما تقوله قصص، (هناك أشياء تغيب) الأخرى ببلاغة سردية لا تخفي.

استغرقت قصص زينب حفني بالنسوية المناهضة للذكورة على أن الأنوثة مطعونة تحت فساد العلاقة بين الرجل والمرأة.

***

زينب أحمد حفني: هناك أشياء تغيب، مجموعة قصص، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت

- دمشق


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة