Culture Magazine Monday  19/11/2007 G Issue 223
ذاكرة
الأثنين 9 ,ذو القعدة 1428   العدد  223
 
حقيقة أمير الشعراء..التاريخ المنسي «2»
بدر بن علي العبد القادر

 

 

ويقول الحاتمي (ت 388 هـ) في معرض حديثه عن امرئ القيس :(فهذا أمير الشعراء؛ ومن بعده النابعة، وقد قدّمه عليه قوم، فقال:

وتَخالهاُ في البيتِ إذْ فاجأتها

قد كانَ محجوباً سراجُ المَوقد

وإنما اعتمد فيه على قول امرئ القيس:

تضُيء الظّلامَ بالعشاء كأنهاّ

منَارَةُ مسمىَ راهب متَبتلِ(4)

وهذه الأحكام له دلالات عدة، تشفع كلها لامرئ القيس في اعتلاء منصة التتويج بلقب الإمارة، فالقوة الشاعرية التي يتميز بها امرؤ القيس يشار إليها بالبنان، ودليل شخصية عظيمة، وعقلية جبارة، وذكاء نادر، ولسان حاد، تُخاذل غيره عن طلب تحقيقها، أو ظنها مستحيلاً.

وجاء نُسب هذا اللقب بعد امرئ القيس إلى الشاعر الفحل المخضرم، أبي ذُؤَيب الهذلي خويلد بن خالد (؟ - 27 هـ) في كتاب (مسائل الانتقاد) يقول :(وأما أبو ذؤيبٌ فشديد، أمير الشعر حكيمهُ، شغله فيه التجريبُ حديثه وقديمه؛ وله المرثية النقية السبك، المتينة الحبك؛ بكى فيها بنيه السبعة، ووصف الحمار فطوَّل، وهي التي أولها:

أَمِنَ المَنونِ وَريبِها تَتَوَجَّعُ

وَالدَهرُ لَيسَ بِمُعتِبٍ مِن يَجزَعُ(5)

ولم أجد في المصادر أحدًا منح اللقب لأبي ذؤيب غير أبي الريان، وبذا يكون تلقيبه به حقيقيًّا صادقًا لا تنظيريًّا خادعًا، وهو لقب أملته طبيعة الموقف، وسانده التواضع لا الترافع، والتماهي لا التباهي، حتى وإن لم يتفق على ذلك سدة الناس.

ومثل ذلك ما ذكره أبو زيد النميري (ت 262 هـ) أن الشاعر الكبير النابغة الذبياني (؟ - 18 ق. هـ) قلد إمارة الشعر للشاعر الكبير قيس بن الخطيم الأوسي (؟ - 2 ق. هـ) فقال: (فتقدم قيس بن الخطيم بين يديه فأنشد:

أَتَعرِفُ رَسماً كَاِطِّرادِ المَذاهِبِ

لَعَمرَةَ وَحشًا غَيرَ مَوقِفِ راكِبِ

حتى أتى على آخرها فقال له النابغة: أنت أشعر الناس يا ابن أخي)(6). وهنا ألمَّ بخاطري تساؤل، كيف اتخذ النابغة هذا الموقف؟ ولم انساق وراء شاعرية قيس دون غيره ؟ وكيف أبدى رأيه؟ وهل رأى أشعر من قيس، أم أن هناك معايير دقيقة كانت متبعة حتى يُحكم له بالإمارة، أم أنها أهواء وآراء تبعثها طبيعة الموقف، وتحكمها نوعية العلاقة، وتضطرها الحاجة؟

وحين يحكم الأب بإمارة الشعر لابنه، فإن ذلك مدعاة للتريث في قبول الحكم، لاستناده إلى أمور تستجلب العاطفة، وتبعد الموضوعية، وهنا لا يتجرد الأب غالبًا من ذاتيته، فيرضخ لعوامل قد نجهلها تضطره إلى ذلك، وسواء كان هذا أو ذاك فإن القدرة اللغوية، والمقدرة الشعرية هي من تتحكم باللقب لا الأمور الذاتية والعاطفية، وقد قلد عبد الله بن العجاج ابنه رؤبة (؟ - 90) شرف هذا اللقب فقال عن نفسه: أول رجز قلته أني خرجت مع أبي نريد سليمان بن عبد الملك حين قام، فجعل يهمهم يقول الرجز، فهمهمت ثم قلت: يا أبتِ قد قلت رجزًا، قال: هاته فأنشدته:

كَم قَد حَسَرنا مِن عَلاةٍ عَنسِ

كَبداءَ كَالقَوسِ وَأَخرى جَلسِ

إلَى اِبنِ مَروانَ قَريعِ الإِنسِ

وَاِبنَةِ عَبّاسِ قَريعِ عَبسِ

أكرم عرس جبلا وعرس

قال حتى أتيت على آخرها، فقال: أعد فأعدتها عليه فحفظها، ثم قال: اِخس لا يسمعن هذا منك أحد فنفتضح، قال: ثم قدمنا بيت المقدس، وجلس سليمان بن عبد الملك للناس، وأذن لأبي وقدم على الشعراء فابتدأ في قصيدتي ينشدها سليمان، وأردت أن أقوم فأقول الشعر لي، فكرهت أن أفضح أبي على رؤوس الناس، فلما فرغ وأخذ الجائزة وخرجنا قلت: يا أبتِ المقاسمة، قال: لا والله، ولا فلس، أي بني أنت أشعر الناس، أذهب فاطلب لنفسك، وأخرجني من عياله (7). والذي أميل إليه هنا أن ابن العجاج استعجل في حكمه لينفرد بالجائزة، وليضع ابنه موضع عزة وقوة، وفخر يرجوه له، ويدعيه له، وإلا فلا يمكن أن نقبل حكماً قطعيًا من شاعر نسب قصيدة غيره له، وإلا فكيف بدأ الأمر برأي، وسعى كل منهما لإقناع الآخر، وليس للاستماع إلى وجهة نظره، ليتحول الموقف إلى أمر، ثم يتطور إلى حكم.

وحين يمنح شاعرٌ شاعرًا لقب الإمارة فإن ذلك يدخل تحت طائلة ما سبق، لتداخل عوامل داخلية وخارجية خفية في استصدار اللقب، وإلا فمن الظلم والتعسف منح لقب إمارة الشعر بسبب بيت أو قصيدة، ما لم يتفق على ذلك أهل الحل والعقد، فقد نال شرف هذا اللقب الشاعر كُثيِّر عزة (40 - 105 هـ) والقصة ذكرها أبو القاسم الأصفهاني (ت 502 هـ) يقول:(وقال كُثير أتيت جَمِيلاً استنصحه هل أظهر الشعر فأنشدته:

وَكانَ الصِبا خِدنَ الشَبابِ فَأَصبَحا

وَقَد تَرَكاني في مَغانيمِها وَحدي

فقال: حسبك أنت أشعر الناس (8). والعارفون ببواطن الأمور يدركون بداهة أن هذا الحكم إصلاحي أكثر من كونه واقعي، هدف من خلاله إلى أن يصنع من كُثيِّر شاعرًا لامعًا، وإخراجه من حالة الرُّهاب الاجتماعي التي يعيش فيها، وقد يكون لتشابه الحالة الشاعرية للشاعرين سبب في لجوء كُثيِّر لجميل، ووقوف جميل مع كُثيِّر وتشجيعه، أو حتى مجاملته؛ للحفاظ على لقبه بإثبات قوته الشعورية، وقدرته الشاعرية.

وحول ذلك ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني (ت 356 هـ) أن الشاعر الكبير جرير بن عطية التميمي (28 - 110 هـ) منح هذا اللقب للشاعر (نصيب بن رياح) (؟ - 108 هـ) الشاعر الكبير الفحل، فقال:(عن محمد بن سلام عن خلف أن نصيبًا أنشد جريرًا شيئًا من شعره، فقال له: كيف ترى يا أبا حزرة ؟ فقال: له أنت أشعر أهل جلدتك (9) واللقب إن لم يكن صراحة فهو معدود في مرادفات الإمارة، لإفادة صيغة (أفعل) في قوله :(أشعر) صفة التفضيل، وتميز الفاضل على المفضول.

وقد نسب الشاعر أبو نواس (146 - 198 هـ) الإمارة له في قصيدة يقول فيها:

قيل أنت أشعر الناس طرّاً

في رويٍ ّ تأتي به وبديه

فلماذا تركت مدح ابن موسى

والخلال التي تجمّعن فيه

وقد قال ابن الأعرابي المنجم :(حضرت أبا نواس في مجلس، وأنشد شعرًا، فقال له من حضر في المجلس: أنت أشعر الناس) (10). وهذه الشهادة نتيجة موقف آني، وإعجاب وقتي، مصدرها فصَيحاتُ الكلام، وبديعاتُ النظام، صدر عن مجلس شعراء وعلم، وأدب، فعدّ شاعرها من أمراء الشعر.

وامتدادًا لمسيرة لقب الإمارة فقد ناله بعدُ الشاعر الكبير أبو العتاهية (130 - 211 هـ) بشهادات فردية احتفظت لشاعرها بإمارة الشعر في التاريخ، كما ذكر ذلك الأصفهاني، يقول:(أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: سمعت مصعب بن عبد الله يقول: أبو العتاهية أشعر الناس، فقلت له: بأي شيء استحق ذلك عندك؟ فقال: بقوله:

تَمَسَّكتَ بِآمالٍ

طِوالٍ بَعدَ آمالِ

وَأَقبَلتَ عَلى الدُنيا

بِعَزمٍ أَيَّ إِقبالِ

وَما تَنفَكُّ أَن تَكدَ

حَ أَشغالاً بِأَشغالِ

فَيا هَذا تَجَهَّز لِ

فِراقِ الأَهلِ وَالمالِ

فَلا بُدَّ مِنَ المَوتِ

عَلى حالٍ مِنَ الحالِ (11)

ويقول: (قال عبد الله بن عبد العزيز العمري: أشعر الناس أبو العتاهية حيث يقول:

ما ضَرَّ مَن جَعلَ التُرابَ فِراشَهُ

أَلّا يَنامَ عَلى الحَريرِ إِذا قَنِع) (12)

وهذه شهادة من مشارب متعددة، بسبب أبيات واقعية تكاد تخرج من باب الإعجاب إلى الإعجاز، ومن حد الشعر إلى السحر، فاستحق صاحبها لواء الشعر.

وشَرُف باللقب بعد ذلك الشاعر الكبير البحتري (206 - 284 هـ) وقد منحه إيَّاه الشاعر الكبير أبو تمام (188 - 231 هـ) والقصة ذكرها أبو الفرج الأصفهاني، فقال: والحديث للبحتري: (قال لي أبو تمام: بلغني أن بني حميد أعطوك مالاً جليلاً فيما مدحتهم به، فأنشدني شيئاً منه، فأنشدته بعض ما قلته فيهم، فقال لي: كم أعطوك؟ فقلت: كذا وكذا، فقال: ظلموك، والله ما وفوك حقك، فلم استكثرت ما دفعوه إليك؟ والله لبيت منها خير مما أخذت، ثم أطرق قليلاً، ثم قال: لعمري لقد استكثرت ذلك، واستكثر ذلك، واستكثر لك لمَّا مات الناس، وذهب الكرام، وغاضت المكارم، فكسدت سوق الأدب، أنت والله يا بني أمير الشعراء غداً بعدي، فقمت فقبلت رأسه ويديه ورجليه، وقلت له: والله لهذا القول أسرُّ إلى قلبي، وأقوى لنفسي مما وصل إلي من القوم) (13). ونستبين من قول أبي تمام (غدًا بعدي) أنه اصطفى اللقب لنفسه، أو أنه مُنح له، قبل أن يمنح شرفه للبحتري من بعده، على أني لم أجد فيما وقعت يدي عليه من مصادر أدبية وتاريخية أحدًا منح إمارة الشعر لأبي تمام.

وقد ذكر الأمير أسامة بن منقذ (ت 584 هـ) أن القاضي أبا يوسف لقبَّ به الأمير أبا الحسن علي بن مقلد (ت 575 هـ) الشهير بسديد الدولة، الذي انتزع قلعة (شيزر) من الفرنج، فقال له ذات يوم في مجلس العلم والأدب: (أنت أمير الشعراء، وشاعر الأمراء) (14).وهو حكم مقبول، حُفظ لصاحبه في المصادر، غير أني أميل إلى أن الحكم يشوبه بعض المبالغة المغلفة بالمجاملة؛ لما يرتجى من حظوة وكرم، علمًا أن هذا المصدر انفراد - حسب علمي - بالقصة.

وبعد أحمد شوقي (1285- 1351 هـ) جاء أبو الفضل الوليد، إلياس بن عبد الله طعيمة (1303 - 1360 هـ) وهو شاعر من أدباء لبنان في المهجر الأمريكي، فرأى أحقيته بإمارة الشعر بشهادة غير الإنسان، وهي الطيور الجميلة (البلابل) وهو حكم دخيل على ما سبقه، وتفوح منه رائحة (الأنا) يقول في قصيدته التي مطلعها:

حَلمتُ بأنّي في الرياضِ أسيرُ

وحَولي وفوقي مزهرٌ ونضيرُ

فأطربني التغريدُ من ألفِ طائرٍ

يقولُ لأهلِ الشعر أنتَ أمير

ثم مَنَح الأمير شكيب أرسلان (1286 - 1366 هـ) شرف إمارة الشعر إلى شاعر النيل حافظ إبراهيم (1288 - 1351 هـ) بعد أحمد شوقي في قصيدته التي أرسلها إليه، إذ يقول:

وَرَهطٍ دَعَوني أَن أُجيبَ نِداءَهُم

فَلَمّا دَعَوني لَم يَرَوني بِقُعدُدِ

إلى قوله:

فَأَنتَ إِمام النَثرِ غَيرَ مُدافِعٍ

وَأَنتَ أَميرُ الشِعرِ مِن بَعدِ أَحمَدِ (15)

وحاز مرتبة اللقب بشارة بن عبدالله بن الخوري المعروف بالأخطل الصغير (1885- 1968م). إذ اتسم شعره بالأصالة، وقوة السبك والديباجة، وجزالة الأسلوب، وأناقة العبارة، وطرافة الصورة، بالإضافة إلى تنوع الأغراض وتعددها، وطارت شهرته في الأقطار العربية، وكرم في لبنان والقاهرة. وفي حفل تكريمه بقاعة الأونيسكو ببيروت سنة 1382هـ أطلق عليه لقب أمير الشعراء (16).

وكان آخر من لقب ب(أمير الشعراء) الشاعر المغربي حميد بركي الذي كتب في جميع المجالات، وأبدع أكثر في الشعر حتى لقب بالمتنبي، وفضلت قصيدته (رياح أنفا) على معلقة امرئ القيس، وُصِف في مهرجان الدار البيضاء أنه تفوق على المتنبي في وصف المرأة، ولقب بأمير الشعراء ورد يقول:

فقيل لسان الشعر أنت أميره

فقلت أنا سلطان كل مفعل

فلا فرق بيني وبين امرأ القيس

أن تكن قصائد ليست بوحي منزل (17)

وعودًا على بدء بعد هذا العرض الطريف لمسيرة اللقب، وتوارثه عبر أجيال الشعراء المقدمين، وصدور بعض أحكامه عن شداة الشعر، وأهل الخطابة واللسن، الذين بلغوا مبلغًا رفيعًا في الحكمة، ومرتقًى عاليًا في البلاغة، ومنزلة سامية في الفصاحة، بعد أن مخضوا الدهر، وحلبوا أشطره، فشوتهم الأحداث حتى نضجوا، وحنكتهم التجارب حتى حصفوا، فصاروا أهلاً للخلوص إلى تلك الأحكام الصائبة، أرى أن لقب (أمير الشعراء) حقٌّ مكتسبٌ لأي شاعر متى ما تمكن من ناصية اللغة، واعتلى صهوة الحرف، وأمسك زمام الكلمة، فبلغ في النظم غايته، وفي التركيب جودته، وفي الشعر نهايته، وتواطأ على شاعريته العارفون، وشهد له به المقدمون، وما ذلك بعزيز على ذوي العزمات الصادقة.

ختامًا: فقد كان الهدف الأسمى من المقال لملمة أشتات الآراء والوِجهات التي يدوك فيها بعض الكتاب في أحقية انفراد أحمد شوقي بهذا اللقب دون غيره بوصفه إرادة شعبية، فهو وإن لم يكن بدعًا من القول، ونوعًا من التملق، وطرفًا من الظن، فإن اتصاف أكثر من شاعر عبر العصور السابقة بهذا اللقب جاء نتاج تجارب، ومخاض عقول، وإفرازات مواقف، عركتها الحياة، وحنكتها الخبرات، مما يلغي فرضية احتفاظ شوقي باللقب له دون غيره، ولذا لم يعد من نوافل القول قولنا أن لقب (أمير الشعراء) صالح لكل زمان ومكان.

***

(4) الرسالة الموضحة في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره، الحاتمي (ت 388هـ)ك صفحة 4.

(5) مسائل الانتقاد، ابن شرف القيرواني (ت 463هـ): صفحة 3.

(6) أخبار المدينة، أبوزيد النميري (ت 262هـ): صفحة 176.

(7) بغية الطلب في تاريخ حلب، كما الدين بن أحمد (ت 660هـ): 8-3710.

(8) محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، أبو القاسم الأصفهاني (ت 502هـ): 2-349.

(9) الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني (ت 356هـ): 1-340.

(10) انظر: الأغاني 4-18.

(11) الأغاني: 3-13.

(12) الأغاني: 4-15.

(13) الأغاني: 5-346.

(14) البديع في نقد الشعر، أسامة بن منقذ (ت 584هـ): صفحة 8.

(15) انظر: مجلة المنار، العدد التاسع عشر، رقم الصفحة 19.

(16) انظر: موسوعة دواوين الشعر العربي على مر العصور، 1-143.

(17) انظر: مجلة مدونات مكتوب، العدد العشرون، الأحد 29 نيسان، 2007م: رقم الصفحة 28.

انتهت

badrali176@gmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة