الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 19th December,2005 العدد : 134

الأثنين 17 ,ذو القعدة 1426

ما الحبُّ إلا..!!

محمد جبر الحربي
هي المدينة المنورة بتاريخها وأهلها المعجونين بالطيبة والكرم والتواضع، المفطورين على مساعدة الغريب واستضافته والتخفيف عنه، وإغاثة الملهوف، يعرف ذلك فيهم القريب والغريب، المقيم والعابر، وليس ذلك بغريب على من يملأ الإيمان العميق صدورهم، ويظهر على وجوههم، ويكسبهم البساطة العذبة المحببة، مهما علا شأن الواحد فيهم، ويزيل من قلوبهم الفظاظة والغلظة، مقتدين برسولهم الذي ما كان فظاً غليظ القلب، بل ودوداً حليماً رحيماً.
مساء الثلاثاء قبل الماضي، كنت على موعد مع المدينة وأهلها، وللمدينة مواعيد ثابتة في قلبي وفكري، قبل نومي، وفي صحوي، مواعيد من وردٍ وودّ لا تخلفها، فأهلها أهلي، منهم تشكلت، وتحت أنظارهم ورعايتهم نَمَوْتُ، وفي طرقات أعمارهم ركضت، فأنا مديني، ولا يزال يقطنها أهلي الأقربون.
وقد كنت كلما تمليت والدي رحمة الله عليه أراها، وقد رسمت نورها على وجهه، وعطرته بطيبها وطيبتها، فقد أعطته شدة الأرض وسمرتها ومنحها وحنانها في آنٍ، وأنا اليوم، وصورته لا تفارقني، أتذكر فضاءاتها، بساتينها وحاراتها، مساجدها وقبابها، أذكر أيام الصبا، ثم أنثني على كبدي من خشية أنْ تصدّعا.
أذكر كيف ترسم قبيلة النعناع الفضاء بالرائحة واللون والانتعاش، وكيف كيف تتعانق في الأفق المآذن والنخيل، وكيف تتجاوب أصوات مضخات المياه والكهرباء عبر الأودية لترددها الجبال.
أتذكر الروائح المبهجة مع انتشاء الضوء الأول: رائحة النسيم الندي بالورد الذي عبر للتو البساتين المحيطة ليمتزج برائحة البن والهيل، تتبعها رائحة النعناع، ثم رائحة السمن والعسل والخبز المعد في البيوت.. لتتعالى قليلاً قليلاً سوالف الكبار ممزوجة بضحكات الصغار وركضهم.. إنها أيام مليئة بالحياة المشرقة، والطيبة التي تكسو كل شيء، كان لكل شيء طعم، ولكل مشهد عطر ورائحة خاصة، وعندما كبرنا مع درجات العمر أصبح للمدينة قيمتها الدينية والنبوية والتاريخية والمعرفية.
وكلما ازداد وعينا، وازدادت قدرتنا على القراءة الكاشفة تبدت لنا عظمة المدينة المنورة، عظمة الدين الذي بثته، والنبي الذي احتضنته، وعظمة الرجال الذين حكموا الأرض، والرجال الذين غادروها فاتحين ومرسين أعظم وأرحم حضارة عرفتها البشرية، وكان بهم ولهم بعون الله نقص الأرض منأطرافها.
وبالأمس عندما تجولت فيها، واحتضنني حرمها، وأحاطني كرم أهلي وأهلها،وقرأت روحي بها، غالبت دمعي وأنا أحضن الوجوه التي تقمصت وجه وطيبة والدي، وقد غالبته باستعادة سيرة أمة خرجت عظمتها من هذه الأبواب، وهذه البقاع الطاهرة، لتعطر التاريخ والجغرافيا ما شاء الله.
في الحرم كان أحفاد الذين وصلتهم الرسالة على ظهور الخيل، يعودون نفس المسافات التي قطعها الفاتحون الأوائل في رحلات أيسر رغم مشقتها، ليصلّوا على النبي، ويصلوا في مسجده.
فكرت بكل شيء في ساعات، وعبر أمامي التاريخ بعظمته، التاريخ الذي كتبته هذه المدينة الصغيرة، وازدادت تلك المفارقة، وذلك الاستذكار الممتع، والصديق الشاعر عبدالله الوشمي ينبهني إلى كتابة صغيرة تشير إلى حدود المسجد النبوي على عهده صلى الله عليه وسلم.
أفاختصروا الجغرافيا، وطووا الأرض طياً منطلقين من هذا المكان الصغير؟! لم أرد أن أعكر صفوي بالحسرة والندم، ولم أشأ الخوض في الواقع المرير اليوم، لكنني من بيت الخلافة، دعوت لعواصم الخلافة المتناثرة، ودعوت للشهداء والصابرين والمقاومين لشرور الغطرسة من القدس إلى بيت الحكمة، ومن الماء إلى الماء.
دعوت لأهلي أبناء الحضارة العربية الإسلامية الذين يجابهون اليوم أشرس حملة عرفها التاريخ، ودعوت لوطني أن يحميه من شر وشرر الحروب وفيه بيوت الله، ومهد الرسالة، ومنه انطلاقها.
هي مدينتي، وهي المدينة، وهي طيبة الطيبة، منها البدء، وفيها الحفاظ على العهد، وستبقى الجذر والأصل والسند والمدد إن شاء الله. هي المدينة الحبيبة، وما الحبّ إلا للحبيب الأولِ!!


mjharbi@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved