الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 19th December,2005 العدد : 134

الأثنين 17 ,ذو القعدة 1426

طه حسين: رائد العقلانية و الليبرالية العربية «6»
العميد: / النموذج اليوناني / الغرب

د. عبدالرزاق عيد*
إن النزعة الكونية الإنسية التي حكمت منظور طه حسين وهو يشتق دلالتها من فكر ابن خلدون استنادا لقانونه الشهير عن (التشابه والتباين)، إذ تذهب هذه النزعة الإنسية العقلانية بعيدا في توغلها عمقا وهي تحفر عن جذر العقلانية البشرية، أي النموذج الأول لوحدة العقل البشري، فوجد جذرها في التجربة اليونانية: (فلئن كان البابليون قد رصدوا النجوم ووصلوا من ذلك إلى نتائج قيمة فهم لم يضعوا علم الفلك وإنما هذا العلم يوناني، لم ينشأ عن النتائج البابلية وإنما نشأ عن البحث اليوناني، والفلسفة اليونانية، ولئن كان المصريون قد وصلوا إلى نتائج قيمة من الهندسة العملية والآلية، فليس المصريون هم الذين وضعوا علم الهندسة، وإنما اليونان هم الذين ابتكروه ابتكارا).
العميد الذي ناله الكثير من شواظ التأثيم والتكفير والإدانات (الدينية والقومية والطبقية)، بما فيها الاتهام بالعصبية المصرية (الفرعونية) ينكر على قومه المصريين دورهم الريادي في علم الهندسة، رغم مآثرهم الجلى: الأهرامات، فهم إن كانوا قد وصلوا إلى نتائج قيمة، لكن الذي وضع علم الهندسة هم اليونان وليس المصريين الذي يعتز أيما اعتزاز بانتمائه لحضارتهم، ربما كان طه حسين مأخوذا بما تم تداوله عن (المعجزة اليونانية) لكن انجذابه لمثل هذه الغواية ليس مبعثها انجذابا نحو الغرب الذي يدعي وراثته العضوية لليونان بوصفه الوريث الشرعي للحضارة اليونانية، بل إن مبعث هذه الغواية انجذاب لسجال مضمر مع الغرب بأن مصر (كانت يونانية لعدة قرون، ثم رومانية...
ما دام المصريون يجهلون اليونانية واللاتينية، فلا مفر لهم من النظر إلى جزء من تراثهم القومي بمنظار أجنبي. إن الثقافة الكلاسيكية هي من المقتضيات الضرورية للقومية المصرية)(1)
إنما أخّر مصر وسائر بلدان شرقي البحر المتوسط الذين شاركوا اليونان تاريخ البحر المتوسط عن بلدان أوروبا المدنية إنما هو السيطرة العثمانية التي تتحمل مسؤولية الخراب الذي أنزلته بالمدنية...
وللأزهر - بالرغم من كل ما يقال فيه - فضله في حماية المدينة من الأتراك، لكن التواصل القائم في محيط المتوسط، جعل معاناة مصر في كل نواحيها المادية والمعنوية في القرن الفائت، هي معانات لقضايا أوروبية، حتى في السياسية فإن قضية مصر هي قضية الديموقراطية والأوتوقراطية، وهي قضية أوروبية، فالذين حكموا مصر استبداديا - والإشارة هنا إلى إسماعيل - كانوا أقرب شبها بلويس الرابع عشر منهم بعبد الحميد (2).
وعلى اعتبار أن هذه الحضارة ليست ملكا للغرب، ولا تمثل تاريخا خاصا به كما تزعم الأسطورة الأوروبية فإن طه حسين يعتبر أن حق مصر وشرق المتوسط ليس أقل حقا في ميراث الحضارة اليونانية، وأنه إذ يتلمس طريقه إليها، فليس في ذاك تبعية للغرب، بل منافسة له على الاتصال بالمرجعية الحضارية ل (وحدة العقل الإنساني) لإدراكه أن عودة الغرب إلى هذه المرجعية، هي أحد انتصاراته الحضارية، وليس هناك ما يعيق عودتنا إلى المراجع ذاتها، فكما المسيحية لم تعق الغرب من هذا الاتصال، وكذلك ينبغي للخصوصية الإسلامية أو الشرقية أو العربية أو المصرية أن لا تعيق هذا الاتصال، إذ إن الفلسفة اليونانية هي خارج السياقين المسيحي والإسلامي معا، (عد إلى هذه الفلسفة تجدها كانت تطمح قبل شيء وبدون أن تشعر إلى توحيد العقل الإنساني وأخذه بنظام واحد في التصور والتفكير والحكم، ولم يكن بد إذا انتصرت هذه الفلسفة من أن تتقارب الشعوب وتتعاون على توحيد الحضارة وترقيتها، وعلى إيجاد نوع إنساني متحد الغاية) (3)
وعلى هذا فمنذ عودة الفتى - حسب تعبيره عن نفسه في الأيام - من فرنسا عكف على تقديم الثقافة اليونانية تأليفا وترجمة، فبدأ في (آلهة اليونان) 1919، و(صحف مختارة من الشعر التمثيلي اليوناني)1920، و(قادة الفكر) 1925، هذا الكتاب الأخير الذي يرتقي في قراءاته وتحليله لنماذج قادة الفكر الإنساني إلى مستوى في فهم العقل ونظام اشتغاله المعرفي وقوانين وحدته درجة من فهم المباحث الابستمولوجية ومناهجها ما يتخطى الكثير من الأطروحات التي يتداولها الخطاب العربي المعاصر منذ أكثر من ثلاثة عقود حول بنية العقل العربي، ولعل هذا الكتاب لم يتح له هذا الذيوع والانتشار بسبب ارتفاع سوية مقارباته المنهجية عن سقف عشرينات القرن الماضي (العشرين)، بل وربما حتى اليوم - بل وخاصة اليوم - الذي يتردى فيه العقل العربي بتسارع يحجب عنه حقيقة ترديه اليوم فيلتاث متوهما إنجازات هي من نوع التقدم نحو القهقرى، إذا لو أتيح لرافعي رايته الجهادية اليوم أن تخفق رايتهم في سماء مصر مثلا لهدمت الأهرامات بوصفها أوثانا، كما هدمت تماثيل بوذا، رغم توسل طائفة كبيرة من قادة عقل الأمة كالقرضاوي ورهطه، لمجاهدي أفغانستان أن ترأف بها كما رأف بها الأجداد الأسلاف لحقبة طويلة من تاريخها!!
لقد كان العميد يحلم - إذ يستعيد النموذج اليوناني - أن تستعيد مصر دورها الذي لعبته آداب الإسكندريين والفلسفة الإسكندرية التي توجت مشروع الإسكندر المقدوني الحالم بوحدة العالم، من خلال ما أنجزه من تزاوج حضاري بين (عقلي الشرق والغرب) وليس مصادفة ما لعبه العميد من دور في تأسيس جامعة الإسكندرية وأن يكون أول عميد لها طامحا لأن تكون وريثة لتاريخ الإسكندرية العظيم.
والعميد منذ سنة 1925 في كتابه (قادة الفكر) أسس لوعي منهجي دقيق في تمييزه المعرفي والفلسفي للفروق بين (العقل والعقلية)، وهو في ذلك لا يغيب عن باله المأثرة الحضارية الإسلامية التي تحققت في العصر العباسي، إذ قامت (حضارة إنسانية عامة) ويتطلع أن تقوم مصر بهذا الدور، التي طالما لعبت - على حد تقديره - دورها في حفظ اللغة العربية وثقافتها في أيام الأتراك المظلمة.... إذ أصبحت مركز الثقافة العربية الحديثة.
ما هي الاستنباطات الراهنية التي خلص طه حسين من خلال استناده إلى المرجعية اليونانية بوصفها مرحلة مرجعية مشتركة لوحدة العقل الإنساني، حيث تبدو هذه الاستنباطات بوصفها نتائج إجرائية لرحلة بحثه المشوقة هذه التي يمكن أن يشتق المتباين (المحلي، الوطني، الثقافي، العربي) أسئلة راهنية من المتشابه الكلي الكوني اليوناني -كما في العصر العباسي- تغذي مسيرته باتجاه الغاية الرئيسية للحياة البشرية المتمثلة بالحضارة كما تعلم في مدرسة (كونت - رينان - دوركهايم - أنا طول فرانس) الذين كانوا سباقين في استلهام النموذج اليوناني على طريق الحضارة الأوروبية، التي تبدو اليوم بوصفها حضارة كونية لعصرنا!؟
إن أول درس يخلص له العميد على مستوى سؤال الداخل والخارج وعلاقة الصراع أو الحوار بينهما، أي: بين السؤال الوطني والسؤدد الذاتي من جهة، والآخر في حالته العدوانية (الاستعمارية) من جهة أخرى، هو درس أن الحرية هي أس أي سؤدد، فالحرية الداخلية هي الضامن الأساسي، للتحرر من سطوة الخارج وقوته بل وإلحاق الهزيمة به.
فالحرية الداخلية اليونانية التي مناطها الديموقراطية هي التي أسسها اليونان، وهي التي أطلقت كل القوى الداخلية للحضارة اليونانية الوليدة والناشئة، مما مكنها من هزيمة حضارات قديمة عتية وقوية وراسخة كالحضارة الفارسية وذلك لأنها حضارة طغيان واستبداد وعبودية، واليونان كانوا واعين لمقومات تفوقهم هذه المتمثلة ب (الحرية / الديموقراطية)، وتعبير ذلك نجده عندما هزموا الفرس في الموقعة الشهيرة (سلاميس)، إذ شكلت هذه الواقعة مادة للاعتزاز والفخر لشعراء وأدباء وخطباء اليونان، وفحوى هذا الفخر، هو تفسير انتصارهم بدلالة فكرة أنهم أحرار، وأن أعداءهم على كثرتهم وتفوقهم عددا وعتادا وعدة انهزموا لأنهم يفتقروا إلى حرية الداخل، إذ هم عبيد مقيدون بعبودية النظام الكسروي!
وسيعلق العميد على تحطيم جيش كسرى وأسطوله على صخرة سلاميس (انتصرت قوة العقل على قوة الملك وسعه السلطان)(4) . لو أن نهج العميد في فهم علاقة الوطني بالعالمي، علاقة الداخل بالخارج، علاقة التحرر الوطني بالاستعمار ظل هو السائد والمهيمن قبل الانقلاب عليه لما آلت أحوال الأمة إلى ما آلت إليه، أي لو أتيح لهذا النهج القائم على مبدأ أن لا تحرر من الخارج بلا حرية الداخل هو المشكل لنسيج الوعي الوطني للأمة، نقول: لو أن هذا النهج لم يتم الانقلاب عليه عسكريا وشموليا وإنشائيا إنشاديا بلاغيا مرخما، لو أن النهج ظل يتغلغل في نسيج الوعي الوطني والقومي، أما كنا مصريا وعربيا تجنبنا كل هذه الهزائم منذ هزيمة حزيران 1967 وصولا لسقوط بغداد (الفولكلوري) بيومين....!
......................................................يتبع
(1)مستقبل الثقافة - ج2 - ص 158 -261- 275 -295 - 301 عن ألبرت - ص 242.
(2)مستقبل الثقافة في مصر - ص27 - 32 وما يتبع.
(3)عن حوراني - ص 336 قادة الفكر - 266
(4)رحلة الربيع والصيف - دار العلم للملايين - بيروت الطبعة 10 - ص12.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved