الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 19th December,2005 العدد : 134

الأثنين 17 ,ذو القعدة 1426

نعي ترقية
صالح الصقعبي
ظروف العمل هي التي تحدد موعد العودة للمنزل وإن كنت في أحيان كثيرة أتلهف إلى انتهاء الدوام وتنتابني في الدقائق الأخيرة فرحة عارمة تماثل إن لم تتجاوز تلك الزخات من الفرح التي نتراشفها معشر الطلاب عند انتهاء اليوم الدراسي.. أقصد عندما كنت طالباً ولاشك أن مثل هذا الشعور لايزال يدغدغ أحلام الطلاب.. وعند بحثي داخل ذاتي عن مبررات هذا الفرح تكون النتيجة مخيبة إذاً لماذا كل هذه اللهفة..؟ لعله الشعور بالقيد وفرحة الانفلات منه!! قد يكون..
أعود.. استمع إلى ترحيب الصغار ومطالب الكبار.. ألبي ما استطعت من الرغبات.. وأحيل بعض المعاريض إلى لجنة النظر وأخرى إلى الصياغة وثالثة إلى الدراسة وبطبيعة الحال كل هذه اللجان أنا.. لا يكون تقديم الطلبات في مكان واحد ولا يشهد هذا الموقف إعلام داخلي أو خارجي بل يتم من خلال جولة أقوم بها على أماكن تواجد الأسرة في المنزل.. لا.. لا... أسرتي تعد بأقل من المئات.. قد لا تتجاوز عدد أصابع اليد وسر تفرقهم داخل دائرتهم الضيقة هي تباين أمزجتهم، فالصغار يتابعون أفلام كرتون وستار أكاديمي وما شابه من خلال تلفازهم الخاص نعم الخاص.. الخصوصية أصبحت مطلبا ملحا حتى في أشياء تكمن حلاوتها في كثرة الموجودين قيل (الجنة اللي ما فيها ناس ما تنداس) ولكن لعل كل واحد وجد ناسه من خلال الشاشة الصغيرة فالمربع أو المستطيل الأخضر وساحرته التي تنتقل من قدم لقدم متواجدة دوماً في إحدى الغرف.. والمسلسلات المدبلجة الباردة تقطن الغرفة المجاورة.. وكل هذا يبعث في نفس غثاء يستدعي صور تصنف بالتخلف والجهل ووو ولكن لا تنتج العفن والاتكال والتكلس.. كل هذا اعتدت على احتوائه في رحلتي اليومية تلك إلى صومعتي كما تسميها الأسرة وهي عبارة عن كتب مسجاة على العديد من الأرفف بلا نظام ويتم الإضافة لها بين الحين والآخر ووسط الأوراق المبعثرة والأرفف المنتشرة هناك بقعة تتسع لشخص واحد فقط وهو.. أنا... أضع لحمي وعظمي في هذا المكان وأبدأ في رحلة وسيلتها مخيلتي وبوصلتها الأقرب إلى يدي من تلك الكتب.. في هذا المساء كنت مهتماً كثيراً في ترتيب أفكاري وأولوياتي وبنظرة فاحصة إلى الكتب المتناثرة بجانبي قررت أن الشبه بيني وهذا المكان يصل إلى التطابق وعندها بدأت في إفراغ بعض ما يسكن رأسي من الأفكار والآمال والخطط غير القابلة للتحقق ومحاولة استغلال أشياء أخرى مكانها وليكن أي شيء!! المهم أن استفيد من المساحة المملوءة بالأوهام والمسيطرة على ذاكرتي بشيء مفيد.. وما هو معيار الفائدة عندك؟؟.. قالها آخر ليس بعيداً عني أنه يسكن في داخلي يسميه الطيبون الضمير وهناك من يدمغه بالجبن والوسواس والتخلف والكثير.. ولكن لن أجيب عليك أيها الأخر مهما كانت تسميتك.. وبدأت أدير عيني بسبق إصرار وترصد ظاهر وقعت عيني على ملف كبير.. نهضت وأحضرته وبدأت أقلب أوراقه وأقف عند كل ورقة كانت تحمل ذكرى معينة.. هذا قرار تعييني (الله)... قبل عشرين عاماً.. هذا أول إنذار حصلت عليه.. كان سببه عدم وقوفي عند دخول المدير للمكتب الذي كان يضمني مع زملاء من قطر عربي آخر وكانت لهم طرقهم في الاحتفاء بسعادة المدير ولم أكن أحسن مثل هذه المملكة لذا فقد كان عدم وقوفي جرماً إداريا..!.. المصلحة الإدارية مرتبطة بل ملتصقة بمصلحة المدير ورؤيته فهو المسؤول والمطلع على مالا نعرف.. اذكر أني يومها طأطأت رأسي بمسكنة مصطنعه كان دافعها العديد من الالتزامات.. الإيجار، مصاريف الأطفال، الكثير والكثير جعلني ألتهم هذا الإنذار وأهضمه صفحات كثيرة من شهادات الشكر والتقدير جعلتني أسترد بعض كرامتي التي أهدرها ذاك الإنذار المزعوم ولكن أبحث عن ورقة واحدة تفيد بأن شهادات الشكر تلك ترجمت إلى شيء عملي كترقية مثلاً قبل أن تكمل هذه السحابة الصيفية مافيها من دموع.
تقع عيني فجأة على ورقة تفيد باستكمالي المدة المقررة على هذه المرتبة واستكمال جميع العلاوات وتوقف المرتب بل تجمده على حد معين لحين الترقية إلى مرتبة أخرى..
كتب في رأس هذه الورقة التاريخ التالي (1-8-1995)... يا إلهي منذ عشر سنوات لم يزد مرتبي رغم أن مرتبات آخرين تسير بسرعة مذهلة في الزيادة الشهرية وليست السنوية وهنا اتخذت القرار التالي يجب أن تكون هواجس الترقية والعلاوة أول ملف يتم إتلافه وليكن ذلك بشكل علني.
نظرت إلى الساعة كانت تشير إلى السابعة مساءً.. اتصلت على الجريدة
،،،: مرحبا، الجريدة..
،،: نعم..
،،،: مرحبا، لدي إعلان ربع صفحة
،،: وما طبيعة الإعلان؟
،،: نعي!!...
،،: أحسن الله عزاءك وعظم الله أجرك، تفضل..
،،: أنعي إلى كل الطامحين..
،،: لا تستعجل يا أخي تقول (أنعى إلى كل الطامعين)!!.
،،: لا، يا عزيزي الطامعين يتم تهنئتهم والتبريك لهم، بل أنعي كل الطامحين.
أكمل إعلانك لو سمحت قبل أن أكتب علي أن أتأكد من صلاحيته للنشر قبل الموافقة على قبوله هكذا (قال موظف الإعلانات).
مما دفعني للرد عليه بانفعال واضح يا أخي أريد أن أحجز مساحة أدفع مبلغ فأكتب فيها ما أريد وأنعِي من أريد، وعلى أية حال كنت أريد أن أنعي تعبي وعرقي وأيامي التي كان ثمنها ترقية موعودة فوجئت هذا المساء بموتها قبل عشرة أعوام.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved