الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 20th March,2006 العدد : 145

الأثنين 20 ,صفر 1427

المختارات الأدبية وسياسيات الاختيار (2)

* سعد البازعي :
تحدثت في المقالة الماضية عن مختارات نورتون بوصفها أنموذجاً للاختيارات الأدبية حين تصدر عن موقف سياسي- ثقافي، أو سياسوي (من سياسيات).
وأود هنا أن أناقش مثالاً آخر يوضح الأنموذج الثاني من تلك المختارات، وهي أن يقوم على الاختيار فرد من المثقفين بدلاً من مجموعة ودار نشر.
فمع أن دور النشر في الغرب هي في الغالب صاحبة كلمة عليا فيما ينشر، إلا أن حضور اسم شهير ومؤثر يجعل الاختيارات معبرة عن رؤية فردية أكثر منها جماعية، أو فردية وجماعية معاً.الاسم الشهير والمؤثر صاحب الاختيار هنا هو الناقد الأمريكي هارولد بلوم الذي ترجم إلى العربية من خلال كتاب واحد كما أعلم هو (قلق التأثير) أو (قلق التأثر).
وبلوم من أبرز النقاد الذين يكتبون بالإنجليزية اليوم، بل هو من أبرزهم منذ سبعينيات القرن الماضي. وأهميته ليست بعدد ما ألف وحرر من كتب، فهي بالعشرات، بقدر ما هي بنوع الأطروحات التي تبناها وأشاعها منذ بداياته ناقداً للأدب الرومانتيكي الإنجليزي والأمريكي، وتوجهه بعد ذلك لتطوير نظرية حول آليات التأثير الأدبي، ثم اتجاهه في السنوات الأخيرة إلى الكتابة عن شكسبير وتأليف المختارات الأدبية وفي شؤون ثقافية عامة.
وبلوم ليس الوحيد بالطبع في هذا المجال، وقد لا يكون الأهم أو الأفضل، لكنه بالتأكيد من الأكثر شهرة وحضوراً وانتشاراً، وهو ما يجعل مختاراته الأدبية، موضوع هذه الملاحظات ذات أهمية خاصة.
أصدر بلوم على مدى عامين مجلدين من الاختيارات يختلفان في المحتوى ويلتقيان في الايديولوجيا التي توجه تلك الاختيارات.
المجلد الأول كان من النوع الذي بات مألوفاً من ناقد مثل بلوم، أي أنه يتكئ على مصادره من المعرفة الغنوصية والصوفية اليهودية (فهو من أصل يهودي) مثلما يتكئ على ثقافته الأدبية والفكرية الواسعة.
العنوان هو: العبقرية: موزاييك لمئة عقل نموذجي مبدع (نيويورك: وارنر بوكز، 2002).
ويؤكد بلوم في تقديمه لمختاراته أنه انتقاها من زاوية شخصية أو ذاتية، وهو ما يتوقع في كل المختارات، لكن التأكيد على ذلك له دلالته، فالناقد المؤمن بالعبقرية يؤمن بالتفرد أو بقدرة العقل الفرد على القيادة والتوجيه في تبنٍ واضحٍ للرؤية الرومانسية للإنسان، وفي مناهضة للتوجهات النقدية التي تعلي من شأن الثقافة والتاريخ، كما في التوجهات الثقافية والتاريخية التي تذيب الفرد في البحث عن الأنساق أو ملابسات التاريخ وتفاصيله. فبلوم يؤمن بالعبقرية التي يستل مفهومه لها من زاوية قبالية يهودية.
ففي القبّالة، وهي كتابات ذات طابع صوفي يهودي تعود إلى الأحبار اليهود، يسود تصور للذات الإلهية بوصفها مركزاً للكون تحيط به دوائر من العقول المتفردة، أقربها هي الأكثر تماهياً مع تلك الذات، أو أكثر تحقيقاً للحلولية، لكنها جميعاً تمتح من تلك الذات الكبرى وتحقق قدراً من التمثيل لها.
في هذا السياق يرسم بلوم عشر دوائر التي تنتظم العبقريات المائة التي يتحدث عنها مخصصاً لكل واحدة عدداً من الصفحات تتفاوت بتفاوت أهمية كل منها.
والعبقريات المشار إليها هي في المقام الأول عبقريات أدبية وفي المقام الثاني دينية وفكرية من أنواع مختلفة.
في الدائرة الأولى تأتي أكبر العبقريات وهي شكسبير الذي يجلّه بلوم إلى درجة التقديس تقريباً، فقد سبق أن ألف فيه كتاباً قبل سنوات نسب إليه ما أسماه (اختراع الطبيعة الإنسانية)، أو فهمنا للطبيعة الإنسانية بوصف الكاتب الإنجليزي، في نظر بلوم، أعظم من حلل الطبيعة الإنسانية وأشاع المعرفة بها.
ويتلو شكسبير في نفس الدائرة وان بأهمية أقل شخصيات منها القديس أوغسطين والشاعر الإيطالي دانتي إضافة إلى الأسباني سرفانتيس.
أما في الدائرة التالية، التي أطلق عليها بلوم تعبيراً عبرياً قبّالياً هو (حكمة) Hokmah فنجد شخصيات متفاوتة منهم القديس بولس إلى جانب سقراط وأفلاطون مع غوته وفرويد. وإلى جانب هؤلاء نطالع شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا الاختيار المدهش يساعد على فهمه إلى حد ما، حديث بلوم عن نبي الإسلام وما يظهره من معرفة جيدة نسبياً بالقرآن الكريم كما تدل على ذلك استشهاداته ببعض سوره وآياته. لكن تلك المعرفة تظل شديدة الضآلة إن هي قيست بمعرفته بمن هم أقرب إلى الثقافة الغربية مثل قديسي المسيحية والكتاب الغربيين.
الواضح هو أن بلوم معجب بالرسول عليه الصلاة والسلام وليس في عرضه له ما يمكن اعتباره نقداً، إلا إذا أخذنا المكانة التي وضعه بها بعين الاعتبار.. لكن ما يهمنا هنا ليس موقف بلوم من النبي الكريم وإنما مما أسميته سياسيات الاختيار. فمحمد (صلى الله عليه وسلم) إحدى شخصيتين اثنتين تخرجان عن قائمة الشخصيات الثقافية الغربية، أو التي يألفها الغربيون أو تنتمي إليهم على نحو ما.
والطريف هو أن الشخصية الأخرى من اليابان، فهي كاتبة يابانية يضعها في الدائرة الرابعة وتعرف بالليدي موارساكي واسمها الكامل موراساكي شيكيبو. عاشت تلك الكاتبة ما بين القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، وتعد الكاتبة الأشهر في الأدب الياباني القديم فإليها تنسب رواية ضخمة هي حكاية جنجي، التي جاءت بعناصر نفسية وواقعية معقدة سبقت بها الرواية الأوروبية بقرون. وتمثل هذه الكاتبة الاستثناء الأدبي الوحيد في قائمة المخولين الدخول إلى رحاب العبقرية من خارج أوروبا وأمريكا أو الموروث الغربي ككل. من بين المائة شخصية الآخرين هناك خمسة من ذوي الأصل اليهودي، هم: فرويد وكافكا وبول تسيلان وإسحاق بيبل إلى جانب من يسمى في التراث اليهودي (اليهوي) نسبة إلى (يهوه) وهو اسم الإله في الكتب الستة الأولى من التوراة، حيث ينسب إلى تلك الشخصية وضع أسس تلك الكتب.
وبلوم، سواء في مختاراته هذه، أو في كتب سابقة، شديد الاعتزاز بالموروث الصوفي اليهودي بشكل خاص، مثلما هو شديد الزهو بشخصيته التي اغتنت، كما نلمس من كلامه بذلك الموروث، وكما يتضح من كتاب له بعنوان (النقد والقبّالة) حيث تتأسس الرؤية النقدية على ذلك الموروث.
ويبدو أنه لولا بعض الحياء لوضع بلوم نفسه في عداد العباقرة المئة الذين يتحدث عنهم.
مما يلفت النظر في السياق نفسه موقف بلوم من الشاعر والناقد الأنغلو - أمريكي ت. س. إليوت الذي يضعه بلوم في الدائرة الخامسة إلى جانب شعراء وكتّاب أمريكيين مثل إيميرسون وإيميلي ديكنسون وروبرت فروست ووالاس ستيفنز.
وسر الطرافة هنا أن بلوم لا يخفي كراهيته لإليوت، سواء هنا أو في أماكن أخرى من كتاباته، ويعود السبب في ذلك إلى موقف إليوت من اليهود واتصافه بما يعرف بمعاداة السامية أو ما ينبغي أن يسمى (معاداة اليهود). وهي تهمة صحيحة لمن يعرف إليوت سواء في شعره أو في نثره. ومما يزيد الأمر غرابة أن بلوم يضيف إليوت إلى مصاف العباقرة ثم يكتب عنه ما يقلل من شأنه إلى حد أننا نستغرب من إدخاله إلى تلك الرحاب في المقام الأول.
فإليوت، كما يقول بلوم، متأثر بشعراء آخرين يدين لهم بأفضل ما لديه، مثل شكسبير والشاعر الأمريكي وتمان إضافة إلى الشاعرين الإنجليزيين برواننغ وتينسون. أما نقدياً فإليوت، حسب بلوم، لم يقدم شيئاً قادراً على مقاومة الزمن، وقيمته تاريخية فقط. ولك أن تعجب بعد ذلك عن أي عبقرية تلك، لتتساءل بعد ذلك عمّا إذا كان الهدف الحقيقي هو معاقبة إليوت من خلال منحه أهمية ظاهرية ما تلبث أن تتهاوى على محك النقد.
لكن موقف بلوم تجاه إليوت ليس سوى جزء من السياسيات التي أتحدث عنها، فبلوم في نهاية المطاف محكوم هو الآخر برؤية مستقاة من التراث الغربي وليست مختاراته سوى شاهد على ضيق في الأفق يشترك فيه مع كثير من مثقفي الغرب عندما يتبين تمركزهم الثقافي وصعوبة الخروج عن مسلمات ما ورثوه. وهو ضيق يتضح ربما بشكل أكثر حدة حين نتأمل المختارات الأخرى التي نشرها بلوم بعنوان أفضل قصائد اللغة الإنجليزية من تشوسر إلى فروست (نيويورك: هاربر كولنز، 2004).
فسياسيات الاختيار تتضح هنا في موقف بلوم من شاعر أمريكي عرف أيضاً بموقفه العدائي من اليهود، هو الشاعر الشهير عزرا باوند، صديق إليوت ورفيقه في التأسيس لحركة الحداثة الشعرية والنقدية الأنغلو - أمريكية في مطلع القرن العشرين.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved