الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 20th March,2006 العدد : 145

الأثنين 20 ,صفر 1427

ديوان (أرى نسوة يسقين الجثث) للشاعر صالح الحربي
امتحان الذات وهبوب القسوة في نشيد الأنثى
* جمال الموساوي :
لا أصعب من الكتابة عن الشعر... الشعر بدءاً وغاية أمر شخصي إلى أبعد حد ولذلك حين يهم القارئ بنقل المتعة التي أتاحتها له قراءة قصيدة ما أو ديوان ما ينتابه شعور قريب من الرهبة يدفعه إلى أقصى حدود الشك لماذا؟ لأنه ببساطة شديدة لا يتوقع مهما كانت درجة انغماسه - لنقل اندماجه - في أجواء القصيدة أو الديوان أن يصل إلى شيء قريب مما يود الشاعر قوله وهو الشيء الذي يجعل هذا القارئ يقدم للآخرين ما استطاع أن يجده من نفسه هو وهذا أيضاً ما يمنح النص الشعري تعدداً مثرياً بمعنى أن الشاعر ربما يستهدف في النص الواحد الدفع بالقراء المتعددين المحتملين إلى إعادة كتابة نصه بالشكل الذي يجعلهم أنفسهم مبدعي النص كتابة بإبداع قراءة خاصة بكل واحد.
لقد أتاح اللقاء بالشاعر السعودي صالح الحربي قبل بضعة أشهر الاطلاع على تجربة خاصة جداً في الكتابة الشعرية، إنه يكتب شعراً بأقل ما يمكن من الكلمات أي باقتصاد شديد وكأننا أمام حالة ندرة في اللغة أو أننا وهذه هي الحقيقة أمام شاعر لا يريد لقصيدته أن تكون محشوة ولو بكلمة واحدة شاعر لا يكتب قصيدة فحسب ولكنه يرسم لوحة بالحروف والكلمات.
وإذ بدأت هذه الكلمات بالقول إنه لا أصعب من الكتابة عن الشعر فلأن الشاعر صالح الحربي أكد لي من خلال قراءتي لديوانيه (أسماء وحرقة الأسئلة) وبشكل خاص (أرى نسوة يسقين الجثث) أن عالمه الشعري التشكيلي إن صحت المزاوجة فعلاً ينحو إلى الالتباس والابتعاد عن قبضة ما يمكن أن يخطر على بال القارئ، وهو إذ ينسج قصائده في (أرى نسوة يسقين الجثث) يصدِّر هذا الديوان بآيتين كريمتين من سورة يوسف ويجعل القارئ في حيرة عظيمة فما دامت سورة يوسف تتحدث عن الرؤيا وقصة امرأة العزيز لايسعنا إلا أن نطرح سؤالاً حول المراد من كلمة (أرى) في العنوان هل يتعلق الأمر بالرؤية أم الرؤيا؟.
وبقدر ما تكون الرؤية بواسطة العين واضحة في الغالب فإن الرؤيا تحتاج إلى تفسيرات وتأويلات وهو ما يترك الأفق واسعاً أمام تعدد قراءات العنوان فقط قبل الولوج إلى عتبات الديوان وقصائده التي بالرغم من أن بعضها قد يبدو بسيطاً إلا أن القارئ لن يستقر على دلالة واحدة مهما حاول ذلك والشعر وهو يهيئ نصوصه كان على وعي كامل بأن قارئه لن يصل إلى مايعنيه بسهولة ولذلك نجده اختار من أدونيس عبارته:
(غموضاً... حيث الغموض أن تحيا
وضوحاً.. حيث الوضوح أن تموت)
ومن محمود درويش:
(إن الوضوح جريمة)
وهي جمل شعرية لشاعرين عربيين كبيرين تجعلنا تماماً في سياق (أرى نسوة يسقين الجثث).
يستلهم الشاعر صالح الحربي في هذا الديوان عالماً شعرياً مليئاً بالنساء نساء أهدى لهن قصائده ونساء وشمن تجربته الشعرية بفيض ما جدن به عليه من مشاعر تتراوح بين الإقبال والإدبار وإن كان إدباره ونفوره قد بدا أكثر طغياناً ووضوحاً.
في قصيدة (أرى نسوة يسقين الجثث) التي أهداها للشاعرة المغربية وفاء العمراني، وهو إهداء مرتبط غاية الارتباط بما في القصيدة فكأننا بالشاعر صالح الحربي يستكثر على النساء الدخول إلى عالم الشعر فهن أي النسوة إذ يسقين الجثث:
(وأرى
نسوة يتشحن بالسواد
يسقين هذه الجثث
بماء الورد
ويعطرنها
بالمسك والعنبر) ص 25
أقول إذ يسقين هذه الجثث التي نعرف في ما بعد أنها لشعراء عالميين عظام (بابلو نيرودا، فلاديمير ماياكوفسكي، جون كيتس، والت وايتمان، راينر ماريا ريلكه، الكسندر بوشكين وآخرين طبعاً لأن اللائحة هي على سبيل التمثيل لا الحصر) إنما يسقين بذرة داخلهن. لا يردن لها أن تموت، وهي بذرة الشعر، ووفاء العمراني واحدة من النسوة وبالتالي واحدة من اللائي يسقين تلك البذرة.. وقد أحالني الشاعر صالح الحربي برؤياه هذه على عبارة جميلة عميقة الدلالة للشاعر جون كيتس يقول فيها: (الآن أشعر أكثر من أي وقت مضى أنه من الخصوبة أن أموت). وهي الخصوبة التي اعتقد كيتس ربما أنها ستساهم في إنجاب شعراء آخرين وشواعر طبعاً.
وبالرغم من تعدد الشواعر اللواتي أهدى لهن الشاعر قصائد ديوانه فإن تعدد أسماء النساء في القصائد (رحاب، ناهد، مريم...) وكذلك الإيحاءات الأخرى لا يعني شيئاً آخر غير أنها مجرد أقنعة لامرأة واحدة أخفاها الشاعر، بالمكر اللغوي الجيمل للشعراء في إهدائه المثبت بالصفحة 9 لنقرأ: (إلى زهرة الغاردينيا... ه...أ... ناهد.. رحاب... مريم..). أقول أخفاها وينظر إليها عبر قصائده من زوايا مختلفة وإن كانت نظرته مطبوعة في الغالب الأعم بطابع النفور والابتعاد حيث يجد فيها ما لا يمكن عده أو حصره من سيئ الصفات وقبيحها لكنه إذ يجلد المرأة بكل هذه القسوة فهو في النهاية يجلد نفسه ويسلم نفسه لبحار واسعة من السوداوية وعدم الارتياح ونلحظ هذا في غير ما موقع من الديوان كما في قصيدة (كلاب):
(قطعت
لحم جسدي
إلى...
قطع صغيرة
ثم...
رميتها...
لكلاب لا تستحق ذلك) ص 64
وأيضاً في قصيدة (اعترافات):
(يبدو أنني
سأحمل رأسي
وأقدمه إلى السياف
...........
.............
..........
يا ترى من سيصلي على جنازتي
يا ترى من سيهيل عليَّ التراب) ص 32
وحيث إن القراءة لابد أن تكون بما ينبغي من العناية لاشك أننا سنقف ونحن نركز على القسوة التي يواجه بها الشاعر المرأة في قصائده أمام مفارقة. فهو إذ يقسو لا نعتقد أنه يكره ومفتاح ذلك أنه ساق عبارة جميلة لديستويفسكي يقول فيها: (إنني أكره المرأة التي لا تستطيع أن تثير الدافع الشعري في نفسي.. إنني أخافها بل وأفر منها.. لأنها شيطان الظلام.. شيطان الشهوات). ص 51
أرى أنه لو لم تثر هؤلاء النساء- الأقنعة الدافع الشعري في نفس صالح الحربي، هل تراه كان سيكتب هذه النصوص.. شكراً لهن إذ جعلنه يرسم بالكلمات (هل تحيل هذه العبارة على ديوان جميل لنزار قباني؟) لوحات جميلة وإن كانت قاسية:
( أبواب مفتوحة
نوافذ مفتوحة
...
أبواب مغلقة
نوافذ مغلقة
...
وأنا
خلف الشمس
خلف القمر
أنتظر) قصيدة لوحة (انتظار) ص98
هذا شعر لا يقرأ فقط إنما يُرى أيضاً!
ومهما يكن الانتظار قاسياً مع مرور الوقت وتعاقب الليل والنهار، فإن فيه لذة وربما لسبب هذه اللذة كتب الشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي في ديوانه (الشمس تحتضر):
(وأضرب لها موعد حبٍّ
وأصل قبل الموعد
كي أتذوق انتظاري).
إذا كان القراء سيتلقون ديوان (أرى نسوة يسقين الجثث) كل بطريقته الخاصة ويضعون له قراءات متعددة ومختلفة وقد تكون متناقضة أيضاً بالنظر إلى الاختلاف الطبيعي والضروري في الذائقة الشعرية بين الناس فإن ما لا يمكن الاختلاف عليه هو أن هذا الديوان يحتوي على جملة من النفحات التراثية الواضحة ودون أن نتحدث عن العتبات العديدة التي جعلها الشاعر صالح الحربي في صدر قصائده، نجد داخل النصوص ذاتها إحالات وتوظيفات عديدة خاصة للنص القرآني، وهذا يعيدنا إلى منطلق هذه القراءة عندما تحدثنا عن توظيف آيتين من سورة يوسف.


*شاعر وصحفي مغربي

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved