Culture Magazine Monday  02/06/2008 G Issue 250
أوراق
الأثنين 28 ,جمادى الاولى 1429   العدد  250
 

أدب ما وراء الطبيعة
أحمد صالح الهلال

 

 

الحديث عن مستقبلية الأدب، والنتاج الفكري الأدبي، وبأن هناك أدباً يكتب خصيصا لأزمان معينة ومجتمعات لم تأتِ بعد، يبدو حديثا آنيا لم يولد إلا في السنوات المتأخرة.

وحتى لا نتهم بأننا نؤرخ لهذا الأدب، نقول لم يعنَ به إلا في السنوات الأخيرة مع بروز حركة الحداثة، وما شكلته من نقلة في الأدب، سببت إرباكاً وعدم استيعاب أحيانا من القارئ.

وهناك نقطة مهمة طالما تطرقنا إلى النص الحداثي، وهي عدم استيعاب نص من القارئ لا يخوله أن يكون نصا مستقبليا (مع مجازية القول بالمستقبلية)، وهي حجة يحتج بها اليوم بعض الكتاب، بأن ما يكتبونه لا يمكن أن يستوعبه قارئ اليوم، بل يحتاج إلى عامل الزمن حتى تعاد قراءته القراءة الصحيحة، أي الرهان على المستقبل، ونحن لا ندري ما هي الضمانات التي ارتهن إليها هذا الكاتب حتى يرى في المستقبل بداية مجده وانطلاقة نصه.

والمستقبل هنا ليس بالضرروة ذلك القريب، بل قد يمتد لسنوات وقرون!!! حتى يأتي ذلك القارئ الفذ، الذي يكتشف عبقرية ذلك الأديب، الذي يكون حينها قد غيبه الموت، ولم يبقَ إلا النص الذي يعطر ذكراه!!!.

لكن ما يبدو الأكثر غرابة، ما الذي يجعل هذا الكاتب يكفر في حاضره في مقابل المستقبل الذي لم يره وقد لا يتسنى له التنبؤ بحيثياته، هل حاضر اليوم لا يمكن أن يستوعب نتاج ذلك الأديب، في مقابل المستقبل المجهول.

قصة النص الذي لم يكتب لعصره، قصة حقيقية بمعنى أن هناك نصوصاً كتبت في عصرها ولم يتسنَّ لها البروز؛ إما لعدم إعطائها الفرصة الكافية للبروز، وإما لعدم استيعاب القارئ لها، ولم تلاقِ الانتشار والبروز إلا في زمن وبيئة غير زمنها و بيئتها، لكنها نصوص قد تبدو قليلة، إضافة إلى أن كتابها لم يتعمدوا كتابتها لأزمان وبيئة غير البيئة التي عاصروها، لكن قدرها أنها لم ترَ النور إلا بعد سنوات من كتابتها، وهي تعد من نوادر الأدب العالمي.

وكلامنا هذا لا يتنافى مع خلود النص، فالنص الفذ لا يحده زمان أو بيئة لكن النص يجب أن ينطلق من بيئته وزمنه، إلى فضاء الأزمان الأخرى حتى ولو لم يتسنَّ له البروز في عصره، وشاءت الأقدار أن يقرأ في زمن غير زمن الولادة.

فالمتنبي على سبيل المثال وهو من شغل الناس بأدبه على مدى قرون، بدت نجوميته منذ عصر ولادته كشاعر، ليبز شعراء عصره، منطلقا إلى فضاء العصور الأخرى، فلم يكتب لجيل دون آخر، أو يقرر أن يستثمر قصائده في غير الزمان الذي هو فيه، وكذلك شوقي وحافظ إبراهيم وشعراء المهجر وجميع الشعر العربي بجميع مدارسه وعصوره. وهو كلام ينطبق على الأدب العالمي كذلك.

فشكسبير - متنبي الإنجليز- لاقى من الحضور في عصره، ما انعكس على العصور الأخرى مخلدا ذكراه والأمثلة لدى الإنجليز والغرب كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.

كلها تدلل على أن الأدب ابن البيئة والزمن، المنطلق منهما إلى الأزمان الأخرى.

لكن قد يتساءل متسائل لماذا أدب المستقبل؟

أي لماذا هذه الدعوة لكتابة نص يفسره المستقبل؟

مشكلة الأدب وبالأخص الشعر وهو أكثر ما ينطبق عليه هذا الكلام، أنه يعيش يتماً وعزلة، يبدو أنه لم يعشها منذ قرون كان فيها محلقا في سماء العرب، ديوانا وصوتا خلد الكثير من تاريخهم وتجاربهم، وأصبح الصوت الأعلى بلا منازع على مدى قرون، محتلا المساحة الأكبر في حياة العرب، كقناة بدت في ذلك الوقت الوحيدة والأكثر قبولا لدى المجتمع، ليمثلوا الشعراء أحيانا نخبة النخبة وصفوة الصفوة في أي مجتمع، لا كما تعرف النخبة اليوم، وإنما النخبة المندمجة في المجتمع المحاكية للشأن العام فيه. ومن هنا بدت أسطورة أدب المستقبل (والنخبة أحيانا)، أي أن هذا الأدب ليس لديه استطاعة أن يحاكي المجتمع الذي هو فيه معبرا عنه بصورة يجد فيها المجتمع ذاته، ليعكس معا ذلك أتراحه وأفراحه وينقل تجاربه بلغة لا تبدو خارجة من جزر ما وراء الطبيعة ، لأن أغلب لغة شعراء اليوم إما ما ورائية وإما متحجرة عفا عليها الزمن بعيدة عن لغة المجتمع ونبضه (إلا ما رحم الله من عباده الشعراء).

فكون أدب اليوم وبالأخص الشعر، يعيش حالة من القطيعة، وعدم التواصل مع المجتمع، أصبحت كتابة الشعر اليوم نوعا من الترف، فشاعر اليوم لسبب فقده لغة التواصل مع المجتمع، وهي اللغة التي طالما تسيد ناصيتها لقرون، وكان السيد المطلق والمحرك الأول والأخير لها، ومن خلالها استطاع أن يأسر المجتمع أو يشعرن -من الشعر- المجتمع على حد قول الدكتور عبدالله الغذامي.

وهذا الشاعر إما أنه ولد لزمن وبيئة غير بيئته وزمنه، فهو الابن الشرعي للمستقبل، ولكن قدر له أن يعيش حاضراً لا يرى به ذاته.

وإما أنه لم يبقَ له حاضر لسبب بعده عن نبض المجتمع، إلا أن يقرأ المستقبل!!! ويمد البصر إليه، عله يعيد ماضي أسلافه، ليبدو السؤال الحقيقي عن مستقبل الأدب، أي هل بمقدور أدباء اليوم أن يكتبوا نصا يكون ابن ساعته المنطلق في فضاء الأزمان والأمكنة الأخرى غير محبوس في ذات الأديب ومحيطه.

ahmed2004sa@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة