Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

غسان تويني في مكانته العالية المعرفة والنهضة والتغيير
جورج حبش*

 

 

(بعث الدكتور جورج حبش مقالته قبيل رحيله بأربعة أشهر رغم ما كان يعانيه من المرض الذي ألم به، وذلك تقديراً منه للمحتفى به الأستاذ غسان تويني، والثقافية تتوجه بالشكر الجزيل لعائلة الفقيد ولمكتبه الخاص الذين تعاونوا معنا لوصول تحية الحكيم الفلسطيني للحكيم اللبناني).

يطيب لي المشاركة في تكريم الإعلامي الكبير غسان تويني، هذا الرجل الثمانيني من العمر الذي ما برح يشق ويعبر طريق المعرفة والنهضة والتغيير، فمن حق أمثال الرجل أن يكرموا ويحتفى بهم على نتاجاتهم وعطاءاتهم وإبداعاتهم المعرفية والثقافية اعترافاً ووفاء وإنصافاً لأدوارهم النهضوية.

في هذه المناسبة ثمة اعتراف ابتداء لا بد منه، وهو أن غسان تويني، اختلفنا معه، أو اتفقنا، فهو ظاهرة ثقافية في لبنان ومحيطه، تركت بصماتها ومفاعيلها في الحياة اللبنانية، وفي الوسط الفكري، والسياسي، وعلى هذا الابتداء نبني تقديرنا واحترامنا للرجل، فإذا جاز لنا أن نذكر أهم أعمدة الصحافة والإعلام في وطننا العربي فنحن أمام غسان تويني عميداً وصرحاً وعلماً في الصحافة والإعلام، وإذا ما تناولنا أهم المثقفين في وطننا العربي فغسان تويني في مقدَمهم دراية ومعرفة وثقافة، وإذا راقبنا مواقف وبراعة السياسيين، وجدالهم، وحيويتهم فإن غسان تويني مثَل حالة أكثر جدلاً، ووزناً، وسلوكاً، ومثابرة وبراعة، وإذا تأملنا الفضاء العربي عبر سياسييه ومثقفيه، فغسان تويني كان علماً حاضراً في قلب الحالة العربية مجتهداً، ومبادراً، ومحاوراً عنيداً، وديمقراطياً ليبرالياً، مخلصاً لوطنه لبنان، شجاعاً، متسامحاً، عروبياً، فهو الإنسان الجامع، الأكاديمي السياسي، الصحافي الإعلامي الكبير، المفكر المجتهد. ولمّا كان كذلك، فلا عجب أن نشاهد صرحاً إعلامياً وصحافياً وثقافياً عربياً، صرح النهار ونقيض الظلام، نهض بالواقع السياسي والثقافي اللبناني من حالة إلى حالة أكثر تنوعاً وعمقاً، ومعرفة، وجدالاً وصخباً، مما لا يترك مجالاً لأي متجرئ أن ينكر بصمات هذا الرجل وإسهاماته على مسار الحياة الثقافية والسياسية اللبنانية.

وفي هذا السياق، من منَا نحن السياسيين والمثقفين لم يكن حريصاً على متابعة جريدة النهار وملحقها الثقافي، ومقالتها اليومية للأستاذ غسان تويني، ومحاولة معرفة الحقيقة، أو الوصول إلى رؤية، أو معلومة، أو موقف، أو متابعة للرأي الآخر، فقد كان غسان السياسي منسجماً مع نفسه ومع منهجه السياسي رؤية وممارسة، وصاحب مدرسة فكرية وسياسية طبعها بأفكاره ومواقفه وتحليلاته واطلاعاته المتنوعة عبر أكثر من ستين عاماً مليئة بالعطاء والاجتهاد والمثابرة، ومن مسؤوليته على جريدة النهار البيروتية ساهم في حرية الصحافة وانطلاقتها المتنوعة الاتجاهات والمشارب، وقد تخرج من هذا الصرح العديد من السياسيين، والمثقفين، والإعلاميين الذين ما انفكوا يستحضرون مواقف الرجل، وسياساته، وأفكاره، مساهمين في اغناء وإثراء الحياة الثقافية والسياسية اللبنانية.

لقد كان غسان صاحب منهج ليبرالي، برع في استخدامه، براعة القادر المتمكن معرفة، وثقافة، حججاً وبراهين ومعطيات وهو أمر له لا عليه.

لقد نشأ غسان تويني قومياً سورياً وورث عن أبيه صرحاً إعلامياً أجاد في تطويره وإعلائه، ولم يكن عمره يزيد عن خمسة وعشرين عاماً حين جلس على مقاعد البرلمان اللبناني، ويعتلي مناصب وزارية ودبلوماسية وهو في مقتبل العمر، يقارع السياسة والسياسيين مما أهله أن يكون سياسياً بامتياز، وإعلامياً باقتدار، فقد كانت النشأة والمسار مع الحقل العام الوطني والسياسي، فاقتحم عالم السياسة عن جدارة وشجاعة وتمرس.

ولعلَّ معاصرته سياسياً لأكثر من مرحلة سياسية في لبنان ومعايشته الحرب الأهلية في لبنان (وهو قد يختلف معنا في التوصيف) قد صنعت منه سياسياً بارزاً، مجرباً لا مراقبا، مشاركاً لا متفرجاً، دفعته إلى اكتشاف الخصوصية اللبنانية وتوظيفها في مواقفه، وتحليلاته، وقناعاته بما يرفع من شأن لبنان الحر الديمقراطي العربي، وبما يرفع عنه عبء المشاكل الإقليمية والدولية، والنأي به عن حروب الآخرين ..

لقد كان غسان تويني يمثل وجهة النظر الأخرى في السياسة، وهي الوجهة الليبرالية، وهذا حق له (من موقعنا الديمقراطي واحترامنا للرأي الآخر) والتي ترى في لبنان تلك الخصوصية التي تعلو على كل الاعتبارات السياسية والقومية، حيث لبنان الحر الديمقراطي الليبرالي المحايد.

مرة أخرى قد نختلف معه لكننا لا نتجاوزه. فهو من رموز ورواد الفكر المستنير، ورواد النهضة الفكرية والسياسية، ومن رافعي لواء الديمقراطية والحداثة، ومن وطنيي لبنان العربي..

أن تختلف معه فهذا ليس نقيصة، وأن تتفق معه وعليه فهذا دلالة على وسع حججه وبراهينه وقدراته..، ذلك هو غسان تويني، الذي لا تستطيع إلا أن تكون معه في وطنيته، وعروبته، وشموليته، وثقافته نحو مشروع نهضوي عربي..، قد تختلف معه في هذه التفصيلة، أو تلك، في الرؤية، أو الموقف، أو السياسة، لكن دون أن تهبط من مكانته في الفضاء العربي، ودون أن تقلل من شعاع فكره ومواقفه..

أخيراً يبقى غسان تويني الإنسان المكلوم، المحافظ على رباطة جأشه، لحظة وداع ولده جبران، وهي لحظات قد سجلت نبل الرجل واتزان مواقفه، ودعوته للتسامح والهدوء، وتغليب الحكمة، تلك اللحظات قد رفعته أكثر إلى مكانة الكبار، والعقلاء، والحكماء في لبنان، درءاً للفتنة ووعياً للمخاطر...

تحية من الأعماق إلى هذا الرجل الثمانيني، وأنا أناهزه السن، الذي ما زال ممسكاً بقوة الإرادة والهدف، شموع المعرفة، وشعلة النهار، ومعول البناء والتجديد، والتغيير والديمقراطية...

له مني كل التقدير والدعاء بالصحة والعافية.

* مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة