Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

غسان
بقلم: خالد المالك

 

 

لا أحد واجه في حياته ما ساءه وأسعده معاً كما واجه العَلَم والمُعَلّم الأبرز في لبنان الأستاذ غسان التويني، ولا غيره - على حد علمي - تصدى للمحن والشدائد بإرادة لا تعرف المهادنة أو اللين كما فعل (أبو جبران) على مدى سنوات طويلة من عمره المديد، وليس هناك من أحد يستطيع أن يدعي أو يزعم أنه أعطى لبلده وتفاعل مع ضميره كما فعل غسان تويني في كل المحطات التي توقف فيها شامخاً وقوياً وصلباً ليحاور بعقل ويناقش بمنطق كل الأصدقاء والخصوم على حدّ سواء لما ينبغي فعله وتفعيله نحو وطن ينبغي أن تغزوه الديمقراطية ويسوده العدل والمساواة ويتاح فيه لمواطنيه حقهم كاملاً في الحرية بعيداً عن سطوة القتلة وأعداء حاملي مشاعل الرأي الحر الشريف المعارض لهم.

* * *

هكذا بدت صورة الرجل الثمانيني في ذهني منذ أول لقاء تعارف جمعني به - مصادفة - خلال مؤتمر نظمته الجامعة العربية في القاهرة في بداية السبعينيات من القرن الماضي لمناقشة قضية التنمية والإسكان ودور الإعلام في ذلك، وكان وكنت ممن شاركوا في ذلك المؤتمر من الإعلاميين العرب ممثلين لدولهم، حيث تعارفنا وتجاذبنا أطراف الحديث على عجل وكنت يومها حديث عهد برئاسة تحرير صحيفة (الجزيرة)، بينما كان غسان تويني آنذاك وإلى اليوم أشهر من نار على علم بثقافته وفكره وقلمه ووطنيته وصدقه وتسامحه ونجاحه صحفياً وأكاديمياً ودبلوماسياً وكلما كان نائباً في المجلس النيابي أو وزيراً في الحكومة اللبنانية، بما لا يحتاج معها إلى شهادة مني أو من غيري، إذ إن تاريخه ثري وحافل بالمواقف والنجاحات والإسهامات التي تحميه من قول غير منصف قد يبخسه حقه أو حين يتعامى أحدنا عن إشهار الحقيقة وَلَيِّ عنقها.

* * *

هذا إذاً رجل نادر، فقد انتصر على معاناته الشخصية، وهزم كل التحديات الصعبة والانتكاسات المريرة التي واجهها في حياته، وبقي الأقوى والأشد مع كل محنة جديدة كانت تمسّ في الصميم شخصه وأهله وبنيه، ما لا أعرف أن أحداً من الإعلاميين والمثقفين واجه ما واجهه غسان تويني وتحمل ما تحمله وبقي هو الأقوى والأشد برغم كل الانكسارات، وهو لهذا يستحق أن أقول عنه بأنه رجل نادر لأنه اعتاد أن يفاجئ الجميع بالتغلب وبسرعة مذهلة على محنه ودفن كل أحزانه، رغم مرارة الحرمان التي يكتوى بها المرء حين يفقد على فترات ابنته وزوجته وابنيه ليعيش وحيداً مع حفيداته ومع عالمه المدلل والكبير والتاريخي صحيفة (النهار) التي تقود الفكر بأطيافه المختلفة، وتتبنى المعارضة العاقلة التي تحمي الإنسان من أن يؤذيه الآخر، ضمن جهد إعلامي مكنها من أن تتبوأ الرقم الأصعب المستعصي على الترويض.

* * *

دلوني إذاً على إعلامي ثمانيني يمتلك كل هذه القوة والعزيمة والإرادة وهو يودع آخر أبنائه في مقتبل عمره وشبابه إلى مثواه الأخير بعد أن غُدِر بفلذة كبده وقرة عينيه (جبران) لإسكات صوته وتكسير قلمه وتجفيف حبره الذي ظل من خلاله يمارس حقه بأن يعبر عن أفكاره ورؤاه، فلا يجد أعداء الحرية من سبيل لمقارعته الرأي بالرأي والحجة بالحجة إلا باستدناء السلاح بدلاً من استدناء القلم، وهذه ولا شك حيلة العاجزين والدمويين والإرهابيين وأعداء الرأي الآخر، فيما يأتي الأب المفجوع الأستاذ غسان في اليوم التالي وأمام ذهول الجميع ليصدر النهار بعنوان رئيس: جبران لم يمت، النهار مستمرة!!، وليقول أمام مشيعيه: لا أدعو اليوم إلى انتقام، ولا إلى حقد، ولا إلى دم، أدعو إلى أن ندفن مع جبران الأحقاد كلها والكلام الخلافي كله، وأدعو اللبنانيين جميعاً مسيحيين ومسلمين لأن يكونوا واحداً في خدمة لبنان الوطن العظيم، وفي خدمة قضيته العربية، فمن مثل غسان يفجع بابنه الوحيد، فيتعالى ويتسامى ويقول ما قاله في يوم كانت تجلله الأحزان والدموع والآهات.

* * *

حين التقيت بالأستاذ تويني للمرة الثانية وبعد طول غياب وكان ذلك في الإمارات العربية المتحدة في ضيافة الشيخ محمد بن راشد حاكم دبي منذ عامين، وكان لافتاً لي كما لغيري تقوس ظهره وحركته التي بدت بطيئة وشعره الكثيف الذي غزاه الشيب، إلا أني وجدته - كما عهدته - رغم الشيخوخة وثقل السنين وتقدم العمر والهموم والتحديات كما لو أنه ما زال في عنفوان الشباب متألقاً ويتمتع بحضور ذهني قوي، فيما كان الجميع يصغي بانبهار واستمتاع لكلماته المنتقاة وآرائه السديدة وتحليلاته للأوضاع عن معرفة وخبرة وتجربة لا يجارى فيها ولا ينافس عليها، مما كرس قناعتي الشخصية بأن هذا النوع من الرجال، وإننا بغيابهم أو عند حضورهم يمكن لنا أن نقيس مكانتنا بين الأمم إما اعتداداً على ما نحن فيه أو اقتناعاً بأننا نعيش على الهامش في هذه الحياة.

* * *

إن لغسان تويني في كل دقيقة من حياته قصة ينبغي أن تروى وأن تقال للأجيال، فمنذ أن ترك مقعده لدراسة الفلسفة في جامعة هارفرد الأمريكية - الأشهر بين كل جامعاتها - عائداً إلى لبنان ليحمي صحيفة النهار - أهم إرث تركه والده بعد موته - فإذا به لا يكتفي بتأمين استمرار صدورها وإنما نجح في أن يقودها بحكمة ورؤية غير مسبوقة لتكون المدرسة الأولى التي تتزعم الصحافة العربية بمنهجيتها واستقلاليتها ومستوى خبرها ومقالها وتحليلها وكاتبها وصحفيها، بل وأن تكون افتتاحيتها المدوية والمؤثرة بقلمه شخصياً، فأصبح لها من الشهرة والصيت الذائع ما جعلها تمثل الصوت العربي الحر الذي ينتظرها الكبار والصغار، ويتعلم منها كل من يتعاطى السياسة والاقتصاد والفكر وكل ألوان الطيف الثقافي والاجتماعي على مدى خمسين عاماً كانت مناخاتها عاصفة بالمتغيرات والمستجدات والتطورات.

* * *

لقد عمل الأستاذ غسان سفيراً للبنان في الأمم المتحدة، ولو لم يكن له من نجاح يضع اسمه ضمن الكبار الذين خدموا لبنان إلا القرار رقم 425 الذي قضى بانسحاب جيش العدو الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية فوراً وبلا قيد أو شرط لكفى، فضلاً عن مقولته المشهورة والمدوية التي أطلقها في مجلس الأمن حين خاطب الحضور قائلاً: اتركوا شعبي يعيش، وأن لبنان ليس للإيجار أو البيع، وعلى المستوى الأكاديمي يكفي ترؤسه لجامعة البلمند ومناصبه في الجامعة الأمريكية في بيروت ورئاسته لوزارة التربية اللبنانية، وفي المجال الصحفي أمامنا وبين أيدينا هذا الزخم الكبير من النجاحات التي قادها من خلال صحيفة النهار، فضلاً عن قلم غسان نفسه الذي نأى به صاحبه عن الارتهان للميليشيات والطوائف أو مناصرة هذا الحزب دون ذاك لإيمانه بالتعددية في الآراء ووجهات النظر المتباينة، في تجربة فريدة لم تركع صحيفة النهار وغسانها أمام الإغراءات والابتزازات كما انساقت غيرها، وكيف لها أن تقبل بهذا وهي التي لم تركع للتهديدات بالقتل الذي نفذ لاحقاً في ابنه جبران وقبله في سمير قصير، وفي الثقافة والأدب والفكر والتاريخ تتحدث كتبه وإصداراته عن عالم جميل في هذا المجال، وفي السياسة انخرط في دهاليزها منذ أن كان شاباً يافعاً، وأودع السجن أكثر من مرة بسبب نشاطه السياسي المعارض، ودخل في تشكيلة الحكومة في العام 1953م حين بلغ السابعة والعشرين من العمر فأسندت له حقائب وزارية عدة في أوقات كان فيها هو الرجل المناسب في المكان المناسب وبينها التربية والإعلام والشؤون الاجتماعية والصناعة والسياحة إلى جانب اضطلاعه بعمل نائب رئيس الوزراء ونائب رئيس مجلس النواب، وهو الآن داخل هذا الإطار يمارس من جديد رغم تقدمه في العمر مسؤوليته الوطنية بعودته إلى البرلمان في أعقاب اغتيال ابنه (جبران)، بينما كانت أول مشاركة له في البرلمان قد تمت في العام 1951م وعمره آنذاك خمسة وعشرون عاماً.

* * *

لقد كنت أتحدث هاتفياً مع أبي جبران منذ أيام، وبالرغم من صلابته ورباطة جأشه وهدوئه أثناء الحديث وكأنه قد نسي الجريمة وتعافى من مرارة مقتل ابنه الباقي له في هذه الحياة، فقد كنت من جانبي أشعر بالحزن الشديد أثناء إصغائي لصوت الأستاذ غسان وهو يلاطفني بالكلام، ويتحدث معي بعيداً عن همومه ومآسيه، بينما كان مشهد جبران في موقع الجريمة يبدو أمامي بكل صوره المؤثرة والمثيرة للحزن والأسى كما لو أنها تتكرر أمام ناظري مثلما كانت تتكرر بعض كلمات الأستاذ، وكأن المفجوع بقتل جبران ليس والده فقط وإنما نحن جميعاً، ولكن من حسن حظنا أننا -بوفاة جبران- لم نخسر صحيفة النهار ولم نخسر غسانها، إذ إن ما يميز صحيفة النهار عن غيرها من الصحف أن (أبا جبران) قد وضع مبكراً حساباته لكل الاحتمالات وبينها القتل العمد أو الموت بمشيئة الله أو غير ذلك، وهو ما يفسره أول عنوان رئيسي للنهار بعد اغتيال رئيس تحريرها ابنه جبران: جبران لم يمت والنهار باقية!!

* * *

وكلما رأيت الديك الأزرق وهو شعار صحيفة النهار ينتصب في صفحتها الأولى كما لو أنه يتهيأ للصياح لإيقاظ الناس لقراءة صحيفة النهار المثيرة للجدل والمتجددة مع بزوغ شمس كل صباح، كلما تذكرت اختياري لشعار صحيفة الجزيرة في بداية صدورها يومياً في بداية السبعينات من القرن الماضي، فقد كنت في بيروت قاصداً الخطاط (البابا) لعمل (لوقو) ل(الجزيرة) فخطر في بالي آنذاك أن أحاكي (النهار) باستخدام اللون الأزرق على كامل مساحة الجزيرة العربية التي هي شعار صحيفة الجزيرة، فإذا بالانتقادات والملاحظات تتوالى علينا بعد بدء العمل بالشعار، إذ كيف لأرض صحراوية جرداء ولا ماء فيها تغطى كاملة بالمياه الزرقاء، وكان ردي على منتقدينا، وكيف لديك يكون مغطى كاملاً باللون الأزرق كما هو شعار صحيفة النهار، وظل هذا هو شعار صحيفة الجزيرة منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي وإلى الآن، ما ميز شخصية الصحيفة بالتزامها بشعارها دون أن يهتز لها قرار بفعل احتجاجات ما لبثت أن هدأت وتعايشت مع اللون الأزرق الذي كان موضع احتجاج البعض واستفسار البعض الآخر في بداياته فأصبح الآن اللون المميز والمحبب لقراء (الجزيرة).

* * *

وهذا العدد الجديد من المجلة الثقافية وإذ نسعد بكل النجوم الذين كتبوا عن غسان، ضمن احتفالية صحيفة الجزيرة في تكريم غسان تويني، فسوف يليه - إن شاء الله - عدد آخر لنكمل به نشر بقية من استكتبناهم للمشاركة في هذا الجهد المتميز، وقد تعمدنا توسيع المشاركة بحيث تشمل عدداً من الدول العربية وغير العربية، كما راعينا التنويع في التوجهات والانتماءات لدى من استكتبناهم ليقولوا رأيهم في غسان، بما يتيح للقارئ فرصة أكبر للتعرف على شخصية الضيف من زوايا ورؤى ووجهات نظر مختلفة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة