Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

هذا المتمرد في طلب الأمثل
محمد البعلبكي*

 

 

ليس أبهج للنفس من حديث أخ عن أخيه، فكيف إذا كان هذا الأخ هو غسان تويني، رفيق العمر، رفيق الحياة، رفيق القلم ورفيق القضية، هذا الزميل الكبير الذي بات يرمز إلى جيل بأكمله تجاذبته مختلف الأحلام وتباينت فيه العقائد، ولكنه لم يضن يوماً على بلاده بحشاشة القلب ونور العين وذوب العقل الصادق في البحث عن الحقيقة والدعوة إلى الحق مهما تعاظم طغيان الجهل أو استعلت حواجز التعصب، انطلاقاً من تشبث بالقيمة الإنسانية العظمى التي هي الحرية والتسليم الراقي بحق الاختلاف ضمن إطار الولاء للوطن الواحد.

ولكأنك مع غسان تويني أمام جزء من تاريخ وطن في تاريخ إنسان، وإزاء تطلعات أجيال في تطلعات رائد من رواد الفكر والنضال، بل أمام مرجع ضخم يكاد يكون مدرسة قائمة بذاتها لكل طالب صحافة أو ثقافة أو علم سياسي، وأنت مع كل ما كتب تنتابك الحيرة، من أين تبدأ معه وأين تنتهي، ذلك أن في كل ما كتب انعكاساً لهذه الشخصية الألمعية المتعددة الجوانب، التي ندر أن عرفت مثلها صحافة لبنان، بل كل صحافة العرب، فهو الصحافي، وهو السياسي، وهو المثقف المفكر، وهو المناضل، وهو هذا وذاك في آن معاً، يتساوى عنده في الجوهر جانب مع الآخر، لا ينفصل الصحافي عن السياسي، ولا يفترق الدبلوماسي عن المثقف ولا عن المناضل، في اندماج فريد قد يكون عند الناس هو وراء ما بلغه غسان تويني من جاه الأمامة في عالم الصحافة.

ولقد حرص غسان تويني على أن لا يكون إلا ذاته وهو يمارس الصحافة. فلله درُ ذاك الفتى القادم إلى متاعب المهنة من جامعة هارفرد قبل أكثر من نصف قرن يصحب معه إلى مكتبه - كما يقول - كل مخزونه الثقافي وكل ما ربّى شخصيته وبرى قلمه عليه سواء أكانت مطالعاته أو معرفته بالتاريخ أو عمق تحليله السياسي أو مرافقته للأحداث أو خبرته بالإنسان. أفكان إذن عجباً أن يغدو ذاك الفتى واحداً من القلة النادرة من رواد عصرنة صحافتنا في لبنان وعالم العرب عصرنة مستمرة لا ينقطع لها اندفاع إلا لتبلغ أو تتخطى إن استطاعت أرقى مستويات الإعلام المكتوب عند أرقى الشعوب؟.

ويقيني أن غسان تويني كما عرفته إنسان لن يرتوي له غليل في توقه إلى المعرفة، فلم يستحوذ عليه لهو دون طلب علم ولم يصرفه هم عن مزيد من اطلاع يومي على آخر ما أنتجه الفكر الإنساني في العالم. عرفته منذ فتوته طالباً على مقاعد الدراسة، وزميلاً ورفيق نضال، وصديقاً حميماً في السراء والضراء وحين البأس، فراعني منه في كل حال وعلى تعاقب الأعوام تشبثه المستمر المتعاظم بالحرية سبيلاً إلى نور المعرفة وإلى التمرد الخلاق بكل ما يفتح مثل هذا التمرد من آفاق التغيير والتطوير طلباً للأجمل والأعلى والأمثل.

إنه المتمرد بامتياز، المتمرد على كل واقع ولا سيما على واقع الجهل والتخلف والفساد وعفن الضمائر، وأكاد أقول التمرد حتى على الموت. إنه المتمرد في كل لحظة حتى لتخاله في ذبذبات تمرده ذاك الزئبقي الذي يستعصي على الضبط كما يستعصي أحياناً على الفهم إلا إذا سُبِر غوره من هذا المنظور.

هو المتمرد دائماً على ذاته، يعود في كل مرة، وقد امتحن أقسى امتحان بعد أقسى امتحان ليتفيّأ ظل الله الظليل فتسكن منه النفس وتطمئن لما وراء هذه الدنيا، وليس أبداً لما حفلت به الدنيا أمس أو ما قد تحفل به اليوم أو ما تطالعه به غداً.

إنه أبداً في كل ما كتب ويكتب، وفي كل ما فعل ويفعل، في حضرة الحرية. ما أقبل يوماً على سكب مداد، ولا انطلقت يوماً له قريحة في إبداء رأي أو إعلان موقف إلا كان في حضرة الحرية، حتى غدا في الصحافة عرقها النابض دون كلل، لا تفلح صروف الدهر بأن تصيبه بأي وهن، بل لا تزيده تجارب الدنيا إلا شباباً وحيوية وقوة إلى قوة ليستمر دافقاً بنسغ الحياة للإنسان وللمجتمع وللوطن، وأين لمثل هذا المتمرد أن يقع فرسية السأم أو أن يقعده اليأس على ما يخيّل إلى من يتوهمونه ذلك أو قد يتمنَّونه؟.

فدام لنا تمرد غسان تويني شعلة لا تنطفئ - بإذن الله -، بل تضيء على الدوام درب الحرية فتنير السبيل للإنسان، وتصنع في وضح النهار لبنان وعالم لبنان.

* نقيب الصحافة اللبنانية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة