Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

التجربة المريرة العالية
أدونيس*

 

 

تُضيئني حياة غسّان تويني. أقرؤها، كما لو أنها كتابٌ شامل. تتداخلُ فيه الأطراف، وتتآخى النقائض. ويخيّل إليَّ في بعض لحظات القراءة أنّ الجمرَ يحيا في عناق دائمٍ مع الينابيع.

ما تتخاصَم فيه العقول يخترقه، ويتخطّاه نحو أفق آخر مؤتلفٍ مختلف. ما تتساءلُ حوله، حَيرةً أو شكّاً، يعجنه في مختبر حياته، ويستشفّه بحدْسٍ نيّر. ما تَنوءُ تحته الكتف الصُّلبةُ، يحتضنه بحكمة رواقيّةٍ بصيرةٍ، كأنّه نافذةٌ أخرى لضوء آخر.

ولديّ ذاكرةٌ خاصّةٌ بهذه القراءة. يمتزج فيها شبابيَ السياسيّ، الطامح لكن المتعثّر، بشباب غسان تويني المتوهّج المُقْتحم. يمتزج فيها كذلك عزوفي الكامل عن العمل السياسيّ باستمراره هو في توسيع مُعْتَرَكه السياسيّ، ذاهباً إلى رصدِ الواقع بغضبِ رعدٍ، وطمأنينةِ وَرْدة. وعندما تقف بي هذه الذاكرة على حدود حياته الشخصية وأعماقها الحميمة، أقول بدهشة تلقائية: هُوَذا شخصٌ - نسرٌ ويمامةٌ في جسمٍ واحد.

أستعيدُ هذه الذاكرة، فأتعلّم من كتابات غسان تويني وحياته كيف أقرأ لبنان - بيته، ووطنه: الأفكارُ في ذاتِها هي، هنا، موضعُ اختبارٍ دائمٍ لكي تحيا كما لو أنها تنبجس من حركيّة الواقع. لا مُطْلَقات. المطلَقُ شيخٌ يترنّح واقفاً على شفا قبْرِه. وتلك التي تُسمّى الحقيقة الثابتة المطلَقة ليست إلاّ ورقةً ذابلةً تتطاير في هواء الواقع، منحدرةً إلى حيث لا هواء.

ويتأكّد لي في هذه القراءة أنّ لبنان نفسه كتابٌ لا يكتبه قلمٌ يجيء من شجر الأرز، بقدْر ما يكتبه قلمٌ آخر يجيء من شجرٍ أسمّيه (الطَّوف). ويبدو أنّ كلّ شيء، سواءٌ هبط من السماء أو صعد من الأرض، جاء من الشرق أو من الغرب، آخذٌ في العَبَثِ بهذا الكتاب. هكذا يتأكّد شعوري بأنّنا في لبنان نحيا قليلاً، ونموت كثيراً. ويتراءى لي أنّ الفجرَ نفسَه يكاد أن يكونَ ليلاً آخر. أنّ العالمَ حول لبنانَ وفي داخله ليس إلاّ كلاماً يوَسْوسُ ويداً تدمّر.

كأنّ الإنسانَ في لبنان أحدُ ثلاثة:

واحدٌ يموت قاتلاً غيرَه لكي يصعدَ إلى حيث قدّر له الله، وواحدٌ يقيِّدُ معلومَ السماء لكي يحرّرَ مجهولَ الغبار، وواحدٌ يلتصقُ بالنهاية خوفاً من اللانهاية.

وذلك هو (العصرُ) العربيّ: يفكّر ويعملُ كمن يثقُ بالقناديل ويشكّ في الضوء، أو كمن يبرّئ القناديلَ ويتّهم الضوء.

يعرف غسان تويني، منذ بدايات عمله السياسيّ، أنّ ما يعمل له عسير التحقيق. غير أنّه لم يتوقّف عن العمل كأنّه سيتحقّق غداً. خائبٌ أبداً، آملٌ أبداً.

كثيرون ظنّوا أنه سيعتزل. أنّه سيترك الحلبةَ للصّاعدين. غير أنّه، على العكس، ظلّ يفاجئهم على هذه الحلبة. يستمرّ موغلاً في مجابهةِ العالم، ولو كان الخطر أو الهاوية اسماً لهذا العالم. كأنّه كان يقول لهم: لا يُصنَعُ التاريخُ من فوق، أثيريّاً، وإنّما يُصنَع بالأرض، بترابها ودمها. بآلامها وآمالها، بالبشرِ - مذبوحين مشرّدين، ورائين خلاّقين.

لبنان كمثل موسيقى تملأ رأسَه. لكن عندما يفكّر فيه، أو يكتب عنه وحوله، لا يفعل ذلك إلاّ فيما يصغي إلى هذه الموسيقى بجسده كلّه وحياته كلّها.

ولقد وجّه وعيَه كلّه لفهم التناقضات، يساراً ويميناً، علوّاً وعمقاً. اضطرب. احتار. انكسر.

صعد. تعذّب. غير أنّ رعشتَه الحقيقية ظلّت تجيئه من هذا المشروع، المغامرة، الهشاشة، المفاجأة، الخطر، الغبطة؛ من هذا الكلّ العجيب الذي يسمّى لبنان.

أنتَ، يا غسّان تويني،

المغروس في تربة التّجربة المريرةِ العالية، وفي تربةِ الفلسفةِ - السياسة،

هل أسألكَ السؤال الذي كاد أن يهرمَ:

ما العمل؟

هل تحبّ رفيقاً ينضمّ إليك في هذا الخطِرِ الغامض - العمل؟

إذاً، هل تمدّ لي يديك؟

* مفكر سوري - باريس


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة