Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

البيت التويني.. وسباق المشاعل
أسامة سرايا*

 

 

فاجأنا،وفجعنا عام2005 برحيل العديد من الرموز والشخصيات العربية المهمة التي لعبت، خلال العقود الماضية دورا?ً لا يمكن إغفاله في تأسيس هوية الوطن العربي،وإعطائه مظهره الحضاري العصر،وشعرنا وكأنه كان مقدراً علينا أن نفقد أحباءنا واحداً تلو الآخر،وهم الذين حرصوا على منحنا أملاً في غد عربي مشرق ودافعوا،حتى الرمق الأخير-من حياتهم- عن حقوقنا وكرامتنا ومطالبنا.

وجاءت أولى محطات خسارة تلك الرموز مع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في الخامس عشر من فبرايرعام 2005ومع اغتياله دخلنا في متاهة من الاغتيالات في لبنان،لم نعد ندري خلالها من قتل من،أو لأي سبب قتل من قتل.

وكان من نتائج هذا الاغتيال انسحاب سوريا من لبنان ثم تداعيات تقرير ميليس الذي وضع سوريا ولبنان في دائرة الخطر،وأصبح الجميع يتهمون الجميع دون أن تبدو في الأفق أي بادرة أمل بوجود حلول قريبة لتلك الأزمة،على الرغم من الجهود العربية المخلصة التي تبذلها مصر والسعودية لحل الخلافات الدائرة بين الجانبين. ومع اغتيال الحريري فقدنا رجل السياسة والاقتصاد في لبنان،وانتهت قصة صعود رجل بدأ حياته عاملاً يقطف البرتقال والتفاح ليصبح واحداً من بين أكثر رجال العالم ثراء،ورئيساً لحكومة لبنان، واعتقدنا أن هذه العملية سوف تتوقف،لكن عجلة الموت استمرت في حصد حياة الشرفاء بلبنان،وشهد ذلك العام الذي بدأ بزلزال اغتيال الحريري سلسلة متواصلة من الاغتيالات،فكان اغتيال الكاتب الصحفي سمير قصير في يونيو،وفي الشهر نفسه اغتيل الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي ثم كان اغتيال النائب والصحفي جبران تويني في ديسمبر من ذاك العام المؤلم. وكان تويني المعروف بمعارضته القوية لسوريا قد لقي حتفه في انفجار سيارة ملغومة ببيروت وقتل في الانفجار ثلاثة آخرون وأصيب نحو32 شخصا، وجاء اغتياله في اللحظة التي ارتفعت فيها قامته وتحول إلى رمز،يعبر عن وحده المسلمين والمسيحيين في لبنان،ورغبتهم في العيش في حرية وسلام ومساواة وكرامة.

وفي تلك اللحظة الحزينة كان قلبي مع لبنان وأهله،ودعائي له بأن يظل قوياً متماسكاً ومتحداً،وكان قلبي أيضا مع والده غسان تويني،القلعة الصحفية الشامخة الذي فقد ابنه الوحيد،ولم يتبق له في شيخوخته إلا العيش مع دار النهار ومع أحفاده وكان عزاؤنا له أن ابنه شهيد للحرية،وأن تأثيره السياسي الكبير في الأشهر الأخيرة قد صنع منه رمزاً سياسياً،وجعل من داره بيتاً للحرية،وتلك معادلة صعبة يعجز عن تحقيقها شخص عادي? فالشهادة تنير النهار مهما ترتكب أيدي الأشرار من تخريب وقتل.

لقد عرفت الأب والابن،وأدركت معنى الاستمرار والتعاقب بين الأجيال،كان غسان تويني يتحدث دائماً عن أبيه مؤسس النهار،وعن أبنائه الذين رحلوا الواحد تلو الآخر،ويتحدث ابنه جبران عن أبيه وجده الذي يحمل اسمه، ووسط هذا التواصل النادر كنت اكتشف الدور،وألمسه،وأدرك وأعايش حجم الكارثة في لبنان الذي خرج من حرب أهليه دامية،ولم يتعاف منها بعد،ليشهد من جديد حرب السيارات المفخخة،وكوارث الاغتيال التي صارت مسلسلاً دامياً في بيروت منذ مقتل الحريري.لقد فجرت هذه الجريمة براكين من الكراهية،كنا ومازلنا نتمنى خمودها،لكن أصحاب ماكينة القتل ليس لهم عنوان لنحذرهم أو نمنعهم من الوقوع في براثنها،فلقد صنعتهم عقول بلا ضمائر،وغذتهم على مدى سنوات طويلة،حتى أصبحوا آلة شيطانية خارجة عن السيطرة،يريدون الموت لأنفسهم وللآخرين،ليكون الموت بالجملة. وأعود اليوم لأتذكر معكم بعض محطات تميز روعة تلك الأسرة اللبنانية الممتدة و المؤثرة في تاريخنا وفي مسار الصحافة العربية بصفة خاصة.. أعود بكم إلي عام 1926 وسط مناخ من استفزازات الانتداب الفرنسي للبنان، عندما فكر شاب مغامر اسمه جبران تويني أن ينشئ صحيفة أسبوعية أسماها الأحرار المصورة،مهمتها التصدي للاحتلال والهجوم عليه بشكل ساخر،ورفعت السلطات الفرنسية دعاوى قضائية لوقفها،فلم تدم سوى خمسين أسبوعا،كانت وقتها من أبرز الصحف العربية الساخرة والهادفة، لكن الحلم المغامر لم ينته لدى تويني الكبير،فأعاد الكرة في الثلاثينيات، في صحيفة من أربع صفحات شعارها الديك،الذي يعلن عن ميلاد يوم جديد وسماها النهار،جريدة تشق طريقها نحو صحافة عربية متميزة،تعتمد على المعارضة العقلانية دون ابتذال أو تحقير،بدءاً من معارضة الانتداب الفرنسي حتى انتهائه،ثم معارضة الحكومة اللبنانية نفسسها،وبصفة خاصة رئيس الجمهورية آنذاك بشارة الخوري الذي سرعان ما عمد وقتها إلي إبعاده فعينه سفيراً في المكسيك،وإن لم يحل هذا دون أن تواصل الصحيفة طريقها في المعارضة،على الرغم من تعرضها للعقوبات المتواصلة،لتصبح واحدة من أعرق الصحف اللبنانية.كان جبران الكبير قد أسس في مساره ما أصبح في عرف الحكومات اللبنانية المتعاقبة دولة النهار،وقرر أن يعيد الابن البكر غسان قسراً من جامعة هارفارد بالولايات المتحدة،ليحمله شعلة النهار في الستينيات،ويحول الجريدة من انصبابها علي الشأن الداخلي إلى آفاق أكثر رحابة تهتم بنفس القدر بالهم العربي من المشرق للمغرب،مروراً بالخليج العربي،ليصبح مع الوقت ظاهرة خاصة في الحياة اللبنانية السياسية والفكرية،ويتم تكريمه بمنحه منصب وزير التربية ثم سفيراً لدى الأمم المتحدة وبين هذا وذاك مستشاراً لرئيس الجمهورية.

والمتتبع لسيرة البيت التويني يدرك جيداً مدى مرارة رحيل الابن الأخير الباقي لغسان تويني،ويدرك حجم المرارة التي كابدها الرجل برحيل أحبائه الذين ودعهم واحداً تلو الآخر إلى مثواهم الأخير،ولهذا ربما كان أكثر ما أبكى الجميع في كلمات الأب وهو يودع جسد ابنه المسجي أمامه قوله: (إنه قل أن يعطى لإنسان أن يقف في المكان ذاته على مدى ستين عاماً يودع والده ثم أبناءه).

أعود فأسترجع في ذاكرتي صور أبناء الأب المكلوم الذين راحوا يهزون برحيلهم فؤاده وأعصابه،فهو الذي وقف من قبل في الستينيات علي قبر الابنة نايلة إثر إصابتها بالسرطان،ثم فقد في الثمانينيات الابن الثاني مكرم في حادث سير في باريس،وأخيرا وقف علي قبر الابن البكر جبران الذي فاجأه رحيله غدراً بأربعين كيلوجراماً من الديناميت،فجرت سيارته المصفحة وهي تقله إلي جريدته في نهار يوم جديد لها،ولا يبقي من جبران الابن سوى بطاقة هويته،وبطاقات اعتماد مصرفية واحترام عميق في القلوب.

كان قدر غسان تويني أن يقف على قبر رمزي لولده البكر،لم يحمل سوى بقايا جسد كان قد تناثر في كل مكان. لكنه مع قدر لا يعلم مداه سوى الله من الألم،تمكن من إعلان دفن الأحقاد كلها مع جبران،فلم يطالب بالثأر لابنه ولم يقبل أن يقابل الشر بالحقد.

وكان غسان من قبل قد حمد الله كثيراً أن زوجته ناديا قد رحلت عن الدنيا قبل أن تواجه مثله آلام فراق الابن مكرم وربما تذكرها مرة أخرى وحمد الله على رحيلها قبل أن تعاني لوعة انفجار بكرها.

واسترجع مع دموع الأب صوراً لبدايات جبران الابن الذي حمل الشعلة عن والده،وهو في عقده الرابع ليصبح رئيساً لمجلس إدارة النها،ومديراً عاماً لها،ونشر مقالاته المتفجرة والغاضبة من الوجود السوري في لبنان،وتوجه بقسمه الشهير كنائب في البرلمان،وهو يقسم في14مارس 2004 ويقسم من ورائه مليون متظاهر: نقسم بالله العظيم مسلمين ومسيحيين أن نبقى موحدين إلى أبد الآبدين دفاعاً عن لبنان العظيم ليستمر بعدها في مقالاته العنيفة وتصريحاته السياسية الغاضبة، دون أن يدرك في اندفاعه أن التاريخ تراجيدي لا يتقدم خطوة للإمام،إلا بعد أن ندفع ثمنها دماً ودموعاً وهكذا كان اغتيال جبران فصلاً حزيناً جديداً ينضم إلي فصول التراجيديات اللبنانية اليومية.

وكنت قد تتبعت بقلب حاصرة الألم دموع أبناء جبران نايلة 24،وميشال20،أكبر أبنائه والتوأم غابريلا وناديا،اللتين لم تكملا الأشهر الستة،ولا تعرفان في حداثتهما معنى الموت،لأركز بصفة خاصة على نايلة وهي الابنة الكبري لجبران من زوجته السابقة ميرنا المر التي كان قد تزوجها وهو في الثانية والعشرين من عمره،وقد تكون هذه الابنة هي التالية في سباق مشاعل آل تويني،ونسمع قريباً أنها من سيتولى حمل شعلة النهار،وشعلة الأسرة الصحفية وهي التي أرسلها والدها إلى باريس لمتابعة دورة تدريبية في صحيفة الفيجارو الفرنسية،وأدخلها المطبخ الصحفي منذ صغرها وقد ورثت عنه الكثير،ليس فقط في جرأتها بل أيضا في حدتها وإيمانها بقدسية القلم،وضرورة إكمال مسيرة أسرة النهار.

قد تكون نايلة صغيرة جداً على تحمل مسئولية بهذا الحجم،وقد يأتي من يتحمل هذا العبء لفترة انتقالية حتى تتأهل الصغيرة للعب دورها المنتظر،ولكن في جميع الأحوال كلي ثقة في أن ابنة البيت التويني،قد ورثت صفات تؤهلها للقيام بهذا الدور لتصبح الجيل الرابع من حملة المشاعل.

* رئيس تحرير الأهرام


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة