Culture Magazine Monday  03/03/2008 G Issue 236
عدد خاص
الأثنين 25 ,صفر 1429   العدد  236
 

غسان تويني مبدعاً
دومينيك شو فالييه*

 

 

لقد تألم غسان تويني تألماً عميقاً في جسده وروحه، إذ فقَدَ أبناءه الثلاثة في ظروف مأساوية والألم لا يستدعي أي فداء. وإنما يستدعي التضامن، وأنا متضامن كلياً مع غسان تويني في محنته لأن المعاناة في الحياة تبشّر بالأمل. والإنسان ينتعش في جسده وروحه. وخلافاً للمظاهر والإشاعات لا تُقَدّم الحياة أي تواطؤ، ولكن عندما تحين الفرص يجب اغتنامها كي يبقى الإنسان مبدعاً.

لقد أبدعَ غسان تويني

حصلَ لي أن تنازعت معه، إذ لا توجد صداقة حقيقية دون صدامات. والخيارات التي تفرض نفسَها علينا وعلى غيرنا لا تتحكّم بها الأسبابُ نفسها، فيتعيَّن علينا إذن تجاوزَ الجدل لكي نفهم.

لا ينتمي غسان تويني ولا أنا إلى ذلك الرهط الذي يَدَّعي أن التحليل والفَهم يعيقان الفعل. على النقيض من هذا، تُتيح المراقبةُ من أجل التفكير فرصةَ التصدي لهذه الأنظمة الشمولية كلها التي يُحَوّلُ فيها الطغاةُ شعوبَهم إلى قَتَلة.

لماذا اغتيل جبران تويني في الثاني عشر من كانون الأول ديسمبر 2005 بمثل هذا الإصرار الشنيع؟ لأن جريدة النهار تتكلم يومياً أكثر مما يجب عن الهدامين. وتبقى الأسباب الأخرى جميعها سخيفة. روح (المشروع) هي التي ضُربت.

التقيتُ غسان تويني للمرة الأولى في ربيع 1975. كانت المأساة قد بدأت تبلور الطوائف اللبنانية. وسألته، هل سوف يتسع مداها وماذا يعني ذلك للبنان نفسه؟ وما هو الحيّز الذي احتَلَّته بالنسبة لمحيطها العربي والإسرائيلي؟ كنا مجموعة من الأشخاص نتداول هذه المأساة مُلْتفين حول غسان في مقر جريدته في بيروت. بدا لي يومئذٍ كجلمود صخر راسخ في مقعد الإدارة. لقد أنبأني في ما بعد أن قوته الجسدية الظاهرة تخفي صحة هشة. ولأنني كنت في مثل حاله شعرت بأنني صرت أقرب إليه.

أُقَدِّرُ أناقة غسان تويني. سواء أناقة ثياب الراحة من الصوف الاسكتلندي أو المخمل، أو أناقة (رسمية) بربطة العنق والطقم الكامل. ذلك أنه لم يُكْتَب للناس جميعاً أن يعرفوا كيف يلبسون. ومع ذلك تُعبّر ملابسُنا عن الاحترام الذي نكنّه للآخرين، والمحافظة على المكانة تُدافع عن كرامة الناس أجمعين. حسبُنا أن نرى كيف يتصرف بعضُهم عندما يريدون إذلالَ فردٍ أو جماعة فيرتدون الملابسَ الرثة. إننا نكتب من أجل الذاكرة، ونتكلم لتبادل الآراء، نُنجِز من أجل الأخلاق. فنحن نُديم الجنسَ البشري.

ذات يوم بينما كانت ناديا تويني تكتشف بصحبة غسان باحةَ الشرف في جامعة السوربون، قرأتْ كتابةً بالقلم الرصاص على أحد الجدران: (فرانسوا يحبُ جولييت). بفضل هذا الزخم الحيوي لطلابنا وطالباتنا تُوائِمُ الجامعةُ بين المعرفة وبين الحب من النظرة الأولى…. هذا الذي يشبه الصاعقة. وتنبع نزعتُنا الإنسانية من غرامياتنا.

لمّا دُعي غسان تويني في الرابع عشر من شباط 1981، لإلقاء بحث في السوربون أيام كان سفيراً وممثلاً للبنان لدى الأمم المتحدة تساءل: كيف نحدد عروبة لبنان، أي كيف نضع لها تعريفاً؟ ثم أجاب: (لقد تم تعريف لبنان دائماً نسبةً إلى العرب، شئنا أم أبينا. ويتم تعريف لبنان إما سلباً وإما إيجاباً، والسؤال الذي يطرحه اللبنانيون على أنفسهم هو: ما هم عرب اليوم؟ وعن أي عرب نتكلم؟ وما هي مشاكلهم؟ وبعد شرح طويل قال: (ماذا يريد اللبنانيون؟ إنهم يريدون لبنان، يريدون لبنانَهم الذي يبقى للجميع في المحصلة ورغم الاختلافات، شيئاً لا يشبه كل ما ليس لبناناً. واستقلال لبنان مرتبط حصراً بهذا البعد المختلف المتمثل في نمط الحياة الذي يُقَرّبه من الغرب).

(كان لبنان بالنسبة للفلسطيني وطناً بديلاً، وقدس أقداس الثورة، كان كرهينة لا يُفرَج عنها إلا لقاء سلام يُنتَزع من العدو. وفعلاً، لما كانت الثورة الحقيقية، ثورة الداخل، لم تندلع، حُوِّل لبنان إلى ساحة حرب. حرب بديلة لشَتات متمرد). (غسان تويني 1981-1991 محاضرات منشورات دار النهار 1992).

ومن ثم تشكَلَّت القوى المتعارضة وأُعيد تشكيلها عبرَ كثير من الأحداث الدامية التي أوصلَتني إلى مساعد لجبران تويني جم الذكاء هو سمير قصير الذي كان من تلامذتي بالإضافة إلى كونه صديقاً ثميناً جداً، اغتيل في الثاني من حزيران يونيو 2005 بانفجار سيارته المفخخة، وهو باق في قلبي رمزاً آخر من الرموز التي حكم عليها الإرهاب السياسي بالصمت، هذا الإرهاب ليس إلا تنويعاً على الجرائم المضادة للإنسانية.

غسان اليوم تعتني به شادية، التي جمعتنا في الثاني عشر من آذار مارس 2007 حول مائدة رائعة في دارتهم في بيت مري… إننا نقبل نتائج الزمن الهارب.

* أستاذ في جامعة السوربون


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة