في موقع الدكتور سعد الصويان على الشبكة دراسة تحت عنوان (أنثروبولوجيا) ضمن (أعمال قيد النشر). ولأن ثمة مكانة وطيدة للغة داخل الحقل الأنثروبولوجي فقد ذهبت إلى قراءة العمل؛ لأرى ما الذي يضيفه الدكتور الصويان وهو من الأقلام المعرفية الجادة الرصينة.

بعد القراءة يمكنني القول إن المرجعية التي اعتمد عليها الدكتور الصويان في النظر إلى اللغة وعلاقتها بالإنسان والثقافة ما تزال هي المرجعية السلوكية التي بلغت أوج إحكامها في الثلث الثاني من القرن العشرين الميلادي الماضي، والتي هاجمها تشومسكي منذ أكثر من خمسين عاماً. ولقد تولد من نقده هذا اتجاه كبير يضم عدداً من اللغويين والبيولوجيين يُطلَق عليهم: أصحاب النزعة الفطرية nativism. وهم يذهبون إلى القول بأن العقل الإنساني لا يولد صفحة بيضاء tabula rasa كما كان يُزعَم من قبل، بل إنه مزود بقدرات فطرية داخلية محكومة بيولوجياً. وهذه القدرات تمثل نسقاً للتعرف، والتصنيف، وقياس الأنماط.

تنطلق دراسة الصويان من القول بأن ثقافة الإنسان مكتسبة؛ أي أن الإنسان لا يرثها بيولوجياً، وإنما يكتسبها (من المحيط الاجتماعي الذي ينشأ فيه عن طريق الملاحظة والتقليد والمحاكاة والتعليم الواعي واللاواعي، ولا دخل للعوامل الفسيولوجية والسلالية في عملية التنشئة الثقافية... أي أن الثقافة ليست غريزية ولا فطرية بل سلوك مكتسب). وبطبيعة الحال فإن هذا المبدأ التفسيري للثقافة ينسحب على اللغة بوصفها الأساس المركزي الذي بدونه لن تكون ثمة ثقافة إنسانية أصلاً. ومن الواضح أن تفسير الثقافة على هذا النحو يعود في سياق الدرس الأنثروبولوجي إلى الأنثروبولوجيا التطورية ونظرياتها في التاريخ الطبيعي للثقافة.

ويبدو لي أن الصويان ليس لديه اقتناع بكل الانتقادات التي وُجّهت إلى نظريات التاريخ الطبيعي للثقافة، والتي قدمتها -منذ ثمانينيات القرن العشرين- الاتجاهات الجديدة والمعاصرة في الأنثروبولوجيا، وبخاصة الأنثروبولوجيا الإدراكية cognitive anthropology فيما استمدته من كشوف الوراثيات genetics والعصبونيات النفسية psychoneurology. وأعتقد أن القارئ كان من حقه على الصويان -وهو لا شك قادر على ذلك- أن يقدم له جدلاً معرفياً مع هذه الانتقادات، بدلاً من أن يتجاهلها.

إن الأخذ بنظرية اكتساب الثقافة -وأداته الكبرى اكتساب اللغة- من المحيط الخارجي تفضي إلى اعتناق النسبية الثقافية حيث تصبح كل ثقافة نسقاً مغلقاً يشبه نسق الفحولة عند الغذامي، أو نسق خصوصية الهوية عند كثيرين. الأخذ بهذا المبدأ لا يفسر ظواهر كثيرة في التاريخ الثقافي الإنساني، بل لا يفسر حتى الأساس البيولوجي الذي جعلنا جميعاً بوصفنا بشراً كائنات لغوية بامتياز. يقول الأنثروبولوجي بنيامين كولبي في دراسة حديثة له (2003م): (لا شيء يمكن أن يكون أساسياً بالنسبة للثقافة نفسها أكثر من جين (فوكس بي2) FOXp2 المسئول عن البروتين الذي يرتبط بحركة الوجه والفم- أي بنطق الكلام- وبجوانب مختلفة من إصدار الكلام واستقباله).

كذلك فإن القول بأن الثقافة إنما هي نتاج الملاحظة والتقليد والمحاكاة... إلخ ما ورد في اقتباسنا عن الصويان لا يجيب عن السؤال الإبستمولوجي: وما الأسس الإدراكية، أو الآليات الذهنية في المخ البشري التي تقوم عليها الملاحظة والتقليد والمحاكاة؟ الأنثروبولوجيا الإدراكية الحديثة تجيب بنظرية المخططات الذهنية schema theory؛ بمعنى أننا بوصفنا بشراً مزودون فطرياً بمخططات للعالم تهيئ لنا تنظيم التجربة وطرق الفهم المشتركة بين الذات والآخر.

والأنثروبولوجيا البيولوجية الوراثية biogenetic anthropology تجيب بأن البنيات المشتركة عالمياً في خصائص اللغة، والثقافة، وإدراك الزمان والمكان، والتأثير... إنما تعود إلى التنظيم المهيّأ وراثياً للجهاز العصبي، وأنه من المحال أن تكون الأنماط المتماثلة - في السلوك، والإدراك، والثقافة، مما نوقش في مختلف النظريات البنيوية في الأنثروبولوجيا وعلم النفس والنقد الأدبي- موجودة في موضع آخر غير الجهاز العصبي!!