Culture Magazine Monday  03/11/2008 G Issue 259
سرد
الأثنين 5 ,ذو القعدة 1429   العدد  259
 

قصة قصيرة
الوادي
عبدالله الزماي

 

 

أرصفة أطفأت قناديلها بعد أن أرهقها السهر والضجيج.. ومضى زوارها يجرون تعبهم وأجسادهم إلى مخادعهم.

شارع يتمدد.. بعد أن هجره رواده، ويلتف حول الوادي كلسان ثعبان أعمى.

كانت زواياه تنضح بالبؤس والفراغ.

وكنت أنا في هذه الباحة المرهقة كأرواح اليائسين.. امتص لفافة حزن لا يموت.. أجتذب أنفاسها.. وأنفخها لألون جدران مدائن من القلق تعمر في أعماقي.

أنظر إلى أغصان الطلح المتشابكة كرؤوس الشياطين.. وأرى أشباحاً وأشياء مريبة تتوارى خلف الضباب البعيد.

بقايا نار تركها مشعلوها تذوي هناك.. وأخرى على الجانب الآخر تشتعل وتتراقص بوجه ريح تنفخها فينقذف شررها نحو السماء. وفي الطرف القريب.. شعلة سيجارة تتوهج.. ثم تنطفئ.

أصوات غامضة ومختلفة تصدح في الوادي.. تتحد فتشكل خليطاً ناشزاً.

نباح كلاب ضالة.. أزيز شاحنات.. ضحك سهارى.. نغمات عود.. وغناء بعيد يخفت تدريجياً.

غبش الفجر يفضح أعداداً من المشردين المتناثرين في جنبات الوادي بحثاً عن مأوى. أما يزال صدر هذا الوادي رحباً لاستقبال أنين الحيارى والموجوعين؟ وملجأ لألحان لم تجد أذناً وفيه تنصت لوقارها؟

يظل أهل هذه المدينة المحجبة صامتين ومتوجسين طوال النهار، وفي الليل، يأتون إلى الوادي فيتبرجون ويخلعون أقنعتهم. ويشرعون أرواحهم للرياح القادمة من الشمال يغتسلون من أدرانهم.. ثم يدفنون بقية أسرارهم.. ويعودون إلى سراديبهم وأقبيتهم.

الشمس تتحرر من سطوة الجبال الشرقية شيئاً فشيئاً.. فتعلو أصوات الطيور.. وتشتعل أنوار السيارات هنا وهناك.. تتناقص الأعداد في الوادي وينسحب الناس فرادى إلى المدينة.

استيقظ صديقي حين شعر بحرارة الشمس.. خبط الأرض بيده اليمنى عدة مرات.. قبل أن يجد نظارته الطبية.. وهو ما يزال مبحلقاً في بعينين حمراوين.

ربما مسح نظارته بفانلته المتسخة.. ثم ارتداها..

- إنت ما نمت ليا هالحين..؟!

أومأت له بإشارة فهمها.. وأنا أطفئ سيجارتي. استلقيت على ظهري.. ثم سحبت غطائي على وجهي ربما تجنباً للحوار..

لعله نظر إلى ساعته.. ثم أخذ جالون الماء.. واختفى وسط أشجار الطلح..

رفعت رأسي نحوه وهو ما يزال ينشف وجهه المبلول.. ويمسح نظارته بفانلته المتسخة..

- مشينا..؟

- وين..؟

- للديرة..؟

- ....

وجه إلي نظرات لم أفهمها جيداً.. فحاولت مداراتها بقولي:

- نبي نفطر..

ربما أومأ برأسه.. أو غمغم بكلمات لم أنتبه لها.. ثم اتجه نحو فراشه. طواه.. ثم ألقى به في السيجارة. ثم اتجه إلى قارورة كانت هناك.. أحكم إغلاقها.. ثم وضعها في السيارة.

ساعدته في نقل أمتعتنا البسيطة.. وحين ركبنا.. أشعلت سيجارة جديدة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة