Culture Magazine Tuesday  04/03/2008 G Issue 237
عدد خاص
الثلاثاء 26 ,صفر 1429   العدد  237
 

بطل إحدى الأساطير اليونانية
صالح القلاب*

 

 

لو أن المعني ليس هذا الرجل العظيم الذي شكلت مسيرته الوطنية والصحافية والأخلاقية نموذجاً للجيل الذي أنتمي إليه وهو جيل النكبة والشعارات القومية الصاخبة والجميلة وجيل الهزيمة ثم الثورة والكلاشنكوف ثم الإحباط والتقوقع الإقليمي، فلما استطعت النهوض من سرير المرض في أحد مستشفيات لندن لأكتب هذه السطور التي لا تفي غسان تويني جزءاً من حقه على الذين عرفوه عن قرب وعن بعد والذين قرؤوا له وتابعوا عطاءاته الكبيرة عندما كان مناضلاً قومياً وعندما قادته التزاماته الوطنية إلى السجن وعندما مثل لبنانه ولبناننا في أعلى هيئة دولية في إحدى أهم المراحل التي مرَّ بها هذا البلد الجميل والتي مرّت بها هذه المنطقة.

إنه لا يحق لي أن أدّعي أنني أعرف غسان تويني فأنا لم ألتقه إلا مرات معدودات ومن قبيل رب صُدفة أفضل من ميعاد لكنني عرفت هذا اللبناني العربي المبدع والشديد الالتزام بالقيم العظيمة الخالدة التي دفع ثمن التمسك بها فجائع متلاصقة جاء اغتيال فلذة كبده جبران أبشع صورها وأكثرها إيلاماً معرفة التلميذ المعجب بأستاذ كبير وبفارس القلم والمواقف الصادقة وصاحب كلمة الحق الذي بقي يقولها رغم أنها كانت مكلفة ولا تزال مكلفة.

إن من تابع سيرة ومسيرة غسان تويني لابد وأنه شعر أنه أمام أحد أبطال الأساطير اليونانية التي شكّلت ذهنيّة وثقافة أهل حوض البحر الأبيض المتوسط، فمن تراجيديا إلى تراجيديا، إلى فقد أم جبران في تجربة من أهم المآسي التي عرفها التاريخ، إلى فقدان جبران الذي ترجّل بينما لبنان يعبر معمودية الدم والذي لم تحتمل صراحته وصدقه وحبه لوطن الأرز القلوب الممتلئة بصديد الحقد والرؤوس التي يعشعش فيها داء الخيانة والاستخذاء.

التقيت غسان تويني في مناسبة لتكريمه من قبل الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في دبي وشعرت وأنا واقف في هيئته وملامحه وتعابير وجهه وشعره الأشهب ويديه المعروقتين أنني أمام أحد أبطال الأساطير اليونانية وأنه يشبه إحدى أرزات لبنان الخالدات وأنه يشبه إحدى زيتونات جبل جرزيم في نابلس، لقد شعرت أنني أمام القيصر كركلا أو أمام حنّا بعل، لقد شعرت أنني أتابع مشهداً عن الأصالة والبطولة وأناقة الروح والمظهر على مسرح جرش أو مسرح تدمر أو مسرح بصرى الشام أو مسرح بعلبك. وفي ذلك اللقاء العابر سألت غسان تويني عن معنى اسم هذه العائلة (تويني) ومن أين جاءت إلى لبنان.. وأومأ بيده المعروقه في اتجاه جهة ظنت أنها عُمان وأكمل وكأنه يستمتع بذكر حقيقة علّمها الجدود من هذه العائلة لأبناء أبنائهم ولأحفاد أحفادهم: أعتقد أن الاسم الحقيقي هو ثويني فحوله التحوير للتلاؤم مع البيئة إلى تويني وهكذا كانت الأمر.

لقد بقيت أحرص على قراءة مقالات غسان تويني في صحيفة النهار وأنا في عمان لأدرك الموقف الوطني اللبناني الصحيح ولأزداد معرفة بتعقيدات القضية اللبنانية المعقدة.

وعندما جاءنا النبأ المفجع باغتيال جبران حامل الراية التوينية المشرفة ازداد حرصي على قراءة كل ما يكتبه ويقوله الأب المفجوع والحقيقة أنني فوجئت بمتانة أعصاب هذا الرجل وبقوة قلبه وباتزانه وحصافته.. إن الألم كان عظيماً وكبيراً، وكانت الحكمة كحكمة الذين عندما فقدوا فلذات أكبادهم استجاروا برحمة الله وغفرانه وب لا حول ولا قوة إلا بالله.

وفي ذلك اليوم كنت في قريتي التي تحمل اسماً آرامياً هي (العالوك) والعالوك في اللغة التي تحدث بها السيد المسيح وتفرعت عنها اللغة العربية تعني العالية فهي تقع في وادٍ يستقي من عين ماء تحيط به الجبال الشاهقة التي تغرق في غابة من شجر البلوط المعمر الذي عمر الأصغر منه ألوف السنين وهذه القرية تقابل مدينة جرش التاريخية من جهة الجنوب وعند أطراف ردائها الهندسي الأخضر من الشرق يقع مرقد ملك دمشق الآرامي العظيم الذي حارب اليهود في هذه المنطقة لثمانية عشر عاماً ثم استشهد وسيفه في يده ودفن فوق سنام جبل لا يزال يحمل اسمه ولا يزال أبناء قبيلتي بني حسن يقدسونه ويلجأون إليه في الملمات طلباً للعون والمساندة.

ويوم استشهاد جبران تذكرت أنني عندما كنت صغيراً بقيت آتي إلى إحدى أشجار البلوط القديمة العملاقة التي كنتُ أخالها كقلعة تطل من فوق جبال الحدادة لتحرس مدينة جرش عن بعد، لأراقب نسراً كان يأتي إلى عشها الذي بناه على أحد فروع هذه الشجرة المشرئبة ليحتضن بيضته التي أعطته فرخاً يصح فيه القول (من شابه أباه ما ظلم) وهكذا إلى أن أغارت عصابة من الصبية الشياطين على هذا العش ونهبت فرخ النسر وأخذها أفرداها يتقاذفونه بين أرجلهم إلى أن تحول إلى ما يشبه العصف المأكول.

ترك الأولاد المنطقة وعاد النسر إلى عشه فوجده خاوياً، فأخذ يصدر نواحاً يمزق نياط القلب وهو يصعد نحو السماء، ثم فجأة انقض نحو الأرض واحتضن أشلاء فرخه وأخذها نحو العش وبقيت آتي كل مساء لأراقبه وهو يعود إلى عشه حزيناً وهو يحمل في منقاره هدية لابنه الذي يرفض الاعتراف بأنه لم يعد حياً. وهكذا إلى أن كان ما كان فقد جئت في أمسية يوم لاحق فوجدت أن النسر قد فارق الحياة وهو يفرد جناحيه بحنان فوق باقي ما تبقى من ريش فرخه...

أطال الله عمر غسان ورحم الله جبران لقد مضى شهيداً من أجل لبنان الذي يستحق أن يستشهد كل أهله من أجله وأجل استقلاله.

* وزير الإعلام الأردني السابق


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة