Culture Magazine Monday  07/04/2008 G Issue 242
قراءات
الأثنين 1 ,ربيع الاول 1429   العدد  242
 

هل من علاقة بين المثقف وصناعة الإعلان؟
د. فيصل درّاج

 

 

هل يتعرّف المثقف بكلمة واضحة محدّدة، تشير إلى إنسان يمتلك قسطاً من المعرفة يؤمّن له الاحترام، أم أنّ هذ الكلمة تتضمن جملة من المترادفات مثل: المفكّر، المتعلّم، الباحث المتجدّد؟ والجواب واضح وغير واضح معاً، لأنّ المثقف مفكّر، وإلاّ لما استطاع أن يجيب عن الأسئلة المطروحة عليه، حصّل ما حصّله عن طريق العلم والدراسة، وهو متجدّد المعرفة، كي يكون قادراًَ على معالجة أسئلة البشر المتجدّدة. وسواء كان تعريف المثقف محدّداً، أو يعوزه التحديد، فإنّه يدور حول اكتساب (المعرفة الأكاديمية)، التي تعطيه اللقب والحظوة والاحترام.

ولكن ما المقصود بكلمة المثقف السائدة، التي انتشرت في الثقافة العربية في منتصف خمسينيات القرن الماضي، ولا تزال قائمة حتّى اليوم؟ ربط البعض، في زمن مضى، بين المثقف والالتزام، إشارة إلى متعلّم من نوع جديد، يضع معارفه في خدمة الصالح العام، محتجاً على وقائع معيّنة ومدافعاً عن بدائل اجتماعية صالحة ومفيدة. بيد أنّ تقدّم الزمن خفّف من كلمة الالتزام واحتفظ بكلمة المثقف، بعد أن حظي الأخير بصفات إيجابية كثيرة لها شكل البداهة: فالمثقف هو الذي يرفض احتكار المعرفة ويطالب بتعميم المعارف على البشر جميعاً. والمثقف هو المتعلّم الذي ينادي بمبدأ المساواة، داخل المعارف وخارجها، وهو المفكّر النقدي الذي يحتج على ما يمنع المساواة ويكرّس الفروق بين الناس. ولأنّه يرفض القائم ويتطلّع إلى ما يجب أن يكون، فهو إنسان مستقبلي، ينقض الظواهر السلبية من وجهة نظر مستقبل متحرّر من السلب والشوائب. ولعلّ هذا الطموح الجامع بين المعرفة والأخلاق، والذي لا يتحقق إلاّ في حالات قليلة، هو الذي أقام بين المثقف والاغتراب علاقة ثابتة، كما لو كان المثقف مخلوقاً ينتمي إلى البشر ولا ينتمي إليهم: ينتمي إليهم وهو يجيب عن أسئلتهم، ويكون وحيداً مع نفسه حين يصوغ الإجابات ويفتّش عن أفكار جديدة. ومن هنا صدرت بعض الأوصاف الغامضة، كأن يقال: (العزلة مملكة الأفكار)، أو أنّ (المثقف مخلوق ينعم بهامشية سعيدة)، لأنّه يضيق بمشاغل البشر الصغيرة.

لكنّه يجب القول: إنّ كل الصفات السابقة نظرية ومجرّدة، لأنّ المثقف كائن مثل بقيّة البشر: له مهنة حال النجار والحدّاد والمزارع. ومع أنّ ما يحدّد المثقف هو عمله الذهني، فإنّ المهن جميعاً، مهما كان شكلها، تحتاج إلى أقساط مختلفة من التفكير. وهو أيضاً يبيع منتوجه الفكري مقابل مكافأة يعيش منها، إن لم يصبح أحياناً (تاجراً) من نوع خاص، يكتب عن الموضوعات الأكثر انتشاراً ويزهد بأخرى قليلة الانتشار. بل إنّه، وهو الداعي إلى المساواة، يستثمر معارفه ليصبح نجماً اجتماعياً، يفوق غيره أهمية وشهرة. ولهذا فإنّ جملة الصفات الإيجابية المنسوبة إلى المثقف (وهمية)، أو مجزوءة الحقيقة، باستثناء قلّة قليلة يدعوها البعض ب(المثقفين الكبار).

لا غرابة أن يتقاطع معنى المثقف، في شكله المألوف المسيطر، مع معنى الإعلان. فهذا الأخير يرتبط، عملياً ونظرياً، بالسلع، مقرّراً أنّ فاعلية السلعة، أي بيعها وتسويقها وانتشارها، مرتبطة بفاعلية الإعلان عنها، كان ذلك بملصق جيّد التنفيذ، أو بكلمات قليلة فاقعة لها رنين، أو بالربط بين السلعة وصورة نجم اجتماعي شهير. ذلك أنّ شهرة السلعة من شهرة الطرف الذي يعلن عنها. ولعلّ فاعلية الإعلان هي التي تدعو المثقف، مع استثناءات قليلة، إلى اللهاث وراء المقابلات الصحيفة والظهور في التلفزيون ونشر صوره على كتبه، ونشر أخباره الصغيرة والكبيرة. يتساوى المثقف، والحال هذه، بالسلعة، أو يسلّع صورته قدر ما استطاع، راضياً بمنطق السلعة ومرتاحاً إليه، أي باحثاً عن: الربح والفائدة والمصلحة وسعة الانتشار..

والسؤال الذي لا بدّ منه هو التالي: ماذا يتبقّى من حقيقة المثقّف حين يخلط بين القول والمنفعة ويمزج بين الكتابة والمصلحة، ويبحث عن الريع المضمون دون أن يسأل عن الوسائل التي تقود إليه؟ والجواب لا شيء، والجواب أكثر أنّ المثقف المفترض إنسان مثل بقيّة البشر، قد يكون نزيهاً وأخلاقياً، وقد لا يكون نزيهاً على الإطلاق. يظل، طبعاً، سؤال القيم المحدثة عن الصدق والعدالة والمساواة وابتغاء خير جميع البشر. والقيم هذه ليست حكراً على أحد، يعتنقها بعض من أصحاب المهن، ويعبث بها بعض آخر. وقد يلتزم بها معلّم ابتدائي بسيط في قرية نائية، دون أن يلتزم بها (أكاديمي) معروف كثير الألقاب.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة