Culture Magazine Monday  07/04/2008 G Issue 242
قراءات
الأثنين 1 ,ربيع الاول 1429   العدد  242
 
(حمزة العرب) أكبر تحول في تاريخ الفن الروائي
1-2
د. حمد البليهد

 

 

من طبائع العلم أنه لا يركن للاستقرار ولا مجال فيه للقول الفصل إلا حين تستوي لديه ظواهر الفيزيقا والميتافيزيقا، وهذا ما يدعو دائماً إلى إعادة النظر فيما استقر من معارف تصل حد المسلمات، من بينها ما رسخ في الأذهان من أن أول رواية أدبية عرفها التاريخ هي رواية (دون كيخوته) للأسباني ميجيل دي سيرفانتس، فقد سعت المركزية الأوروبية إلى تثبيت ذلك في الثقافة العالمية كنقطة بدء للنهضة الحديثة القائمة على أعناق الغرب، والموصولة بالنهضة القديمة القائمة على أعناق اليونان والرومان، وكأن فعل النهوض الحضاري قد حُصر في هذه المنطقة من العالم، على الرغم من أن معطيات التاريخ وحقائقه لا تقبل هذا الحصر، فقطار الحضارة مرَّ بمحطات من بينها اليونان والرومان -وهما لم يكونا بحال من الأحوال حضارة واحدة ولا متآخين كما تصور لنا المركزية الأوروبية- فالصين والفرس والعرب ومصر والهند كل هذه المراكز تناوبت قيادة القاطرة الفكرية، فأخذت ممن سبقها وأضافت إليه، مكونة بذلك سلسلة متوالية الحلقات، ومن ثم فالتاريخ لا يعرف القفز في الفراغ أو النشوء من العدم؛ لأن النشوء والتطور مرتبطان بأسباب ومسببات داعية إلى خلق ما هو جديد، ثم استكماله عبر آليات التطور البشري، ولسنا هنا بصدد إعادة صياغة المسلمات لكننا بصدد إعادة اكتشاف نقطة بعيدة في هذا التاريخ المعرض دائماً للحذف والإغماض بما يتناسب مع فكر وأيديولوجية الطرف الأقوى فيه، فلم يكن سيرفانتس يفكر في إنشاء رواية بالمعنى المتعارف عليه، لكنه سعى بأسلوب ساخر إلى نقد سير وحكايات الفرسان المشاة أو الجوالة، ومن ثم فقد أنشأ قصة على غرار هذه القصص لكن بتوجه مخالف عما توجهوا إليه، ففي الوقت الذي كانوا يبالغون في حكاياتهم عن (فرسان الصليب) بما لا يتقبله عقل، فإن سيرفانتس كان يهدف إلى فضح هذه الترهات والسخرية منها، مدللاً على أن قدرات الإنسان الطبيعية لا يمكنها محاربة الجن أو غيرها من الخرافات، وأن هذه الأوهام لا تفيد إلا في إفساد عقول من يقرأها أو يؤمن بها.

وقد جاء ذلك عبر اختراعه شخصية (الشريف، أو عين الأعيان دون كيخوته دي لامشا) الذي آمن بكل هذه القصص المنتشرة عن الفرسان المتجولين، وخرج مثلما خرجوا متجولاً ومحارباً، لكن أي شيء سيحارب؟! كان هذا مناط انحرافة سيرفانتس في فكر الرواية وليس مخترعها، وهي واحدة من الانحرافات والتحولات التي خلقت تياراً جديداً للسرد ما لبث أن جاءت من بعده تيارات أخرى كالواقعية والعبث والوعي واللارواية، وغيرها.

وتعد قصة (حمزة العرب) لعز الدين بن الأثير صاحب كتاب (الكامل في التاريخ) أول رواية أدبية كتابية في التاريخ، وإن شئنا الدقة فهي أول انحراف واضح في تاريخ السرد، وتحوله من الشفوية إلى الكتابية، مرتقية به من حكي العامة إلى فكر النخبة، وهي المؤلف الروائي الأول المعروف كاتبه، بينما ما سبقها من سير أو قصص ظلت مجهولة المؤلف تخضع لتعدد المصادر، بل ذهب رواتها يعملون على إعادة إنتاجها وصياغتها وتحديثها والإضافة إليها حسب ثقافاتهم وعصورهم وبلدانهم، بينما يمكن وصف قصة (حمزة العرب) بأنها أهم تحول سردي في التاريخ البشري، لكن ابن الأثير لم يأت بعمله من عدم أو من فراغ، فثمة جملة من الأسباب دعته إلى أن يقوم بكتابة هذا النص، مثلما دعته الأسباب ذاتها إلى أن ينتهج ما هو معروف من مناهج السرد في ظرفه الزمني، تماماً كما حدث مع سيرفانتس من بعده بقرابة أربعمائة عام.

كان ابن الأثير يعيش في نهايات الدولة العباسية، وهي الفترة التي شهدت انقسامات ودويلات يدين أغلبها من حيث الشعار الرسمي للخلافة، وكان الإسلام قد وحد بقوته في بدء أمره بين أمم وعرقيات وشعوب مختلفة، لكنه مع ظهور عوامل التفكك بدأت هذه الشعوبيات تطل برأسها من جديد حتى ظهرت دويلات تقوم على العرق لا الدين، وأخذت هذه الدويلات تعزز نفوذها بإنتاج فنون تمجد قوميتها وأصولها التاريخية التي تفوق العرب في فترة ما قبل الإسلام، وكان على رأس هذه الشعوبيات الفرس الذين اعتزوا بمجيء المأمون إلى الخلافة -فأمه فارسية- ثم ما لبثوا أن أخذوا ينزعون إلى الاستقلال ببلادهم، فشهد القرن الرابع الهجري عدداً من الدويلات الفارسية مثل الصفرية والسامانية والبويهية وغيرها، وراح الفرس يفاخرون بسير ملوكهم قبل الإسلام على العرب بشاهانامات عديدة، حتى ظهرت شاهانامة الفردوسي التي فاقت كل ما قبلها، وقد أعلى فيها من شأن الفرس والزرادشتية والفهلوية، قادحاً في شأن العرب، فما كان من موالي الفرس الذين يتحدثون اللغتين - العربية والفارسية- إلا أن قاموا بترجمة الفردوسي على هيئة سيرة شعبية كالتي يرويها العامة في المقاهي عن عنترة والزير سالم والأميرة ذات الهمة، وقد أطلق على نص الفردوسي بعد الترجمة اسم (فيروز شاه)، وتحكي عن الأمير فيروز بن الملك ضاراب الذي أحب فتاة مجهولة وسمع أنها في اليمن فذهب للزواج بها فوقعت له المكابدات والحروب التي انتصر فيها جميعاً سواءً في اليمن أو السودان أو مصر أو غيرها، وينتهي أمره بزواجه من الأميرة (عين الحياة) التي أحبته، لكن التفاصيل تعلى من الشأن الفارسي على أي شيء، ومن الأمجاد الفارسية والدين الفهلوي والزرادشتي على أي دين، بينما تصور العرب على أنهم بدو وهمج تابعين للفرس ولا وزن لهم، وقد كان يتم تداول هذه السيرة بشكل غير معلن بين العوام، فما أن ضعفت الخلافة العباسية وقوي النفوذ الفارسي حتى تم تدشين النص بشكل علني وذاعت شهرته، وتم الكشف عن مرجعيته الأصلية -شاهانامة الفردوسي- حتى قام الفتح بن على البنداري بترجمة شهانامة الفردوسي نفسها عام 620 هجرية - 1223 ميلادية لنائب السلطنة الأيوبية على الشام (الملك العادل أحمد بن أيوب)، فطلب البلاغي الشهير (ضياء الدين ابن الأثير) من أخيه المؤرخ الأشهر (عز الدين ابن الأثير) أن يكتب قصة تعلى من قدر العرب وترفع من شأنهم في مواجهة الفرس وسيرتهم (فيروز شاه).

ولعل أسباباً مشابهة دعت سيرفانتس لإنشاء سيرة أو ملحمة (دون كيخوته) الهزلية، فعندما تفككت الدولة الإسلامية في الأندلس وسقطت دويلاتها بالتتابع كان قد استقرت في أذهان الأندلسيين قصص الفرسان العرب أمثال عنترة و الأميرة ذات الهمة وغيرهما، وهي جميعاً سير تمجد الإسلام والعنصر العربي وتحفل بالطابع البطولي، وعندما استطاع الأسبان إخراج العرب من شبه جزيرتهم كان عليهم كأمة ناهضة أن ينحوا جانباً قصص وبطولات من طردوهم وينشئوا قصصاً وبطولات تخصهم هم، ولأن العنصر الديني كان الأبرز في العداء والاختلاف بين العرب والغرب، ولم تكن الحروب الصليبية قد وضعت أوزارها بعد، فكان أبطال القصص الجديدة من القديسين الفرسان الجوالين بهدف الوعظ وهداية الناس ومحاربة الشيطان وأعوانه الفاسقين، ومثلما كانت رقعة الأرض التي تحت أيدي المسلمين متسعة بما يتناسب مع الطابع الملحمي وخروج الجيوش وانتصارات البطل على عدد من الشعوب والأمم وإدخالهم إلى حوزة الإسلام، فإن الطبيعة الأسبانية بمراعيها وقراها ساعدت على قبول الفارس الجوال، ولم يكن هناك ما يدعو إلى أكثر من ذلك؛ لأن دولتهم لم تكن مواجهة بحضارات ودول وإمبراطوريات كبرى كالصين والرومان والترك والسودان وغيرها، ومن ثم انغمس القصاصون الأسبان في إنشاء هذه القصص الخرافية التي تحمل طابع المبالغة، فالأمر أصبح أقرب ما يكون إلى المهنة، فالقصص التي تمجد القديسين الفرسان وتمتهن العرب وتعلي من شأن الأسبان كانت تجد من يُقبل عليها من العامة ليشتريها ويقرأها ويشعر بالفخر القومي، ومن ثم ظهر المؤلف الفرد، ولم يكن مجيء سيرفانتس انعطافة في هذا المنحى، لكن ما أحدثه من انحراف جاء للسخرية من هذه العقلية وصيغ المبالغة التي تنهض عليها، في حين أن إمكانيات الطبيعة البشرية محدودة ولا يمكنها أن تقوم بما يدعونه في قصصهم، وكان (الشريف دون كيخوته) فأر التجارب الذي دفع به سيرفانتس ليخوض مغامرات القديسين وما روي عنهم، مغذياً إياه بإيمان كبير -كغيره من قراء قصص البطولات- ليخرج فيصارع الشياطين والتنينات غير الحقيقية التي لا وجود لها، ومن ثم فهي أول رواية توجه نظر القص للاهتمام بالواقع وليس البطولات المتخيلة.

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة