Culture Magazine Monday  07/07/2008 G Issue 254
عدد خاص
الأثنين 4 ,رجب 1429   العدد  254
 

المعلم المؤمن
هدوء في مدرسة المعرفة الكونية
هيثم السيد*

 

 

لا تبدو الأمور منطقية جدا حينما يبقى طفل لم يتجاوز العاشرة مشدودا لبرنامج علمي ويحرص على متابعته باهتمام وبصمت مهيب حتى ينتهي، وبالنظر إلى هذا التصرف من حيث كونه اختيارا ذاتيا غير مفروض عليه، فالأمر هنا يستدعي أكثر من تفسير، فقد يكون ذلك البرنامج هو جزء من المعطيات التي يكتسبها الطفل بإرادته بناء على ما وجد فيه من مؤثر جاذب استطاع أن يتجاوب مع شكله ويندمج في مضمونه.

ودون أن يقودني ذلك لمسألة أنماط التعليم التي لم تعامل ذلك الطفل بوصفه متلقيا ولم تستطع أن تؤثر فيه بالقدر ذاته، سأحاول استعادة المشهد الذي كان يشدني أكثر من مساء إلى تلك الشخصية النحيلة التي كانت تظهر أمام خلفية زرقاء محضة ودون أي تفاصيل بصرية أخرى، الرجل الذي لا يسبق هدوء صوته سوى هدوء ملامحه التي بقيت أتذكرها جيدا وألتمس شبها ما بينها وبين ملامح الأديب النجيب صاحب نوبل الذي كانت أخباره تملأ تلك الفترة من حياتي، الشامة البارزة كانت تحسم الأمر بينهما ولكنها لم تكن كافية لتبديد قناعتي أن معلمي التلفزيوني (الهادئ) يستحق جائزة لا تقل أهمية عن هذه النوبل التي كنت أسمع عنها الكثير.

حتماً لا أملك من حس التلميذ الناقد ما يكفي لقراءة برنامج (العلم والإيمان) الذي تربى عليه تكويني الثقافي في تلك المرحلة، غير أني على علم وإيمان كاملين بأن في تلك الحلقات ما يشبه التأثير السحري الذي يشدني لمتابعتها بشغف، وسأترك لمن هم أكثر دراية مني بالشأن السلوكي والتربوي تفسير ظاهرة كهذه، فالمعلم هنا حالة مختلفة تقدم أعمق تجليات المعرفة بأبسط أساليب الطرح، وبقدر هائل من المنهجية المتسلسلة عفويا ضمن نهر يمنحه هدوء انسيابه القدرة على أن يصب أفكاره بمنتهى التركيز في ذائقتي كتلميذ برتبة متلق، وهي الرتبة التي لم تكن تتوفر في المدرسة بالهدوء والتركيز ذاتهما غالباً.

إنها البساطة حين تشعرك لوهلة أن هذا الشخص يجلس معك في مجلسك، والخصوصية حين تضعك على بوابة القناعة بأنه يحدثك وحدك رغم أن الملايين يشاهدونه ويسمعونه معك!!

واللافت أن المعلم (التلفزيوني) لم يكن بحاجة إلى أي ديكور مطلقاً ليحول الشاشة إلى سبورة غير مرئية لأفكاره التي كانت تنساب بأريحية مهيبة لتتناول كل ما يمكن أن يطمح إنسان أن يعرفه في حياته، كان يقدم المعلومة بسهولة ويستشف سؤال متلقيه حولها فيجيبه ويمضي إلى ما بعدها سواء تعلق بها أو بُني عليها فالأمور مرتبطة لديه ببعضها ضمن سياقات متتالية متسعة باتساع الحياة وتشعرنا بأنه قادر على أن يستمر في حديثه ذلك لبقية حياته بالهدوء ذاته إذا أراد ذلك!

لم يكن في زمن احتراف إعلامي ولم يحتج لأساليب عرض عصرية كي يوصل دروسه الثقافية الشيقة، فقد تكفلت موهبته الوقورة وبراعته الفذة في منح برنامجه كل عناصر الجذب الممكنة في ظل إمكانات عادية في الشكل وبوجود طاقة استثنائية في المضمون، لم يكن يحتاج أيضاً إلى تلك اللقطات (الأرشيفية) لمظهر طبيعي أو إنساني أو كوني وهي تواكب حديثه غير أن برنامجه استطاع باستخدامها أن يكرس السماعي والبصري معاً ضمن مسؤولية إيصال المعلومة المعرفية أياً كان نوعها للمتلقي مهما كانت عقليته.

كذلك لم يكن غريباً على معلمنا الذي يحدثنا بلغة محكية بسيطة أن يكسر مختلف الهواجس الذهنية المتعلقة بفوقية المعلم على المتعلم كما أنه لم يكن مضطراً أن يفعل كغيره من الذين يبنون مع الجمهور جداراً مبدئياً من المصطلحات العلمية المتخصصة، فقد كان يأخذ مستمعه ومشاهده ببساطة الأسلوب إلى عمق المعرفة، ليتركه يدرك كم هي الأمور أسهل مما يتخيل، ويجعله يتساءل فيما، كيف يمكن لنا أن نتخيل اندماج شخصية المثقف الموسوعي والمعلم الموضوعي ضمن تكوين هذا الرجل الذي لا يستخدم مقدمات مقولبة متصنعة ليستميل فكرك والذي لا تزيده سهولته -غير الممتنعة- إلا تواضعا في المظهر وعظمة في الجوهر.

كثير هم المثقفون ولكنهم يفقدون قيمتهم حين يعجزون عن الحديث عنها ونقلها للعالم، وكثير هم المتحدثون للعالم في كل شيء غير أنهم لا يملكون ذرة من الثقافة، وهذا ما يجعل معلمنا المثقف مميزاً وهو يصالح بعبقرية بين تفكيره وتعبيره على نحو يدخلك أجواء المعرفة ويصنع منك شريكا في التخيل ويضعك في حالة دائمة من توارد الخواطر الذهنية مع شخص قادر على مواكبتك أياً كان مستوى ثقافتك.

إنه مصطفى محمود، المعلم والمؤمن، ولك أن تتخيل كيف احتوى بعنوان برنامجه أهم القيم الكونية كي ندرك أن حقيقة التكامل الوجودي تكمن بين العلم والإيمان، ولك أن تعرف كذلك أن لا شيء بمعزل عن الحديث عنه ضمن هذين المفهومين، فما أوسع الكلمة حين يتحول معناها كوناً لا نهائياً، وما أجمل أن نقف بالتبجيل وندعو لمعلمنا الجليل بقدر ما منحنا جيلاً وراء جيل.

* شاعر وصحافي - الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة