Culture Magazine Monday  07/07/2008 G Issue 254
عدد خاص
الأثنين 4 ,رجب 1429   العدد  254
 

العالِمُ الشاملْ
محمد إبراهيم الحربي *

 

 

حينما أرسل لي الأستاذ فيصل أكرم رسالة جوالية عن نيته في عمل ملف عن الدكتور مصطفى محمود.. ذلك الرجل الذي تقلب في مناحي الحياة من الشك إلى الإيمان.. إلى البر والإحسان.. عادت بي الذاكرة إلى أعوام مضت.. تقارب الأربعين عاماً حيث كنت في ذلك الحين في بداية حياتي الكتابية وكنت قد قرأت له آنذاك كتابه الجميل أكل عيش، ثم تتابعت قراءاتي لكتب مصطفى محمود:

الله، الله والإنسان، عنبر 7، شلة الأنس، رائحة الدم، لغز الحياة، لغز الموت، يوميات نصف الليل، الأفيون، العنكبوت، الخروج من التابوت, رجل تحت الصفر، 55 مشكلة حب، رحلتي من الشك إلى الإيمان، الطريق إلى الكعبة، الروح والجسد، حوار مع صديقي الملحد، الماركسية والإسلام، السر الأعظم.. وأخرى لا تحضرني أسماء عناوينها.

تلك الكتب قرأتها طبعاً في أوقات متفاوتة لكنني أتذكر أن هناك جملة قالها مصطفى محمود في أحد كتبه وأظنه أكل عيش (كل منا يحمل جثته فوق كتفه ) هذه الجملة استفزتني مما دعاني أن اكتب مقالا معارضاً لمصطفى محمود بعنوان (الموت والحب والحياة) وقد نشر هذا المقال في مجلة اليمامة، وقد كان ذلك على ما أعتقد في عام 1394هـ بعد ذلك توالت متابعتي لهذا العالم النابغة الذي اتجه إلى ربط المجتمع بالملكوت عن طريق الأحياء الفطرية؛ فقد كان رفع الله عنه البأس يترجم في برامجه أحاسيس الزهر والشجر ويفسر لنا كيف يغض عنا القمر البصر !!

ذات يوم جمعة وكنت في مصر وتحديداً كنت أسكن في المهندسين، شارع شهاب وكان مسجد مصطفى محمود لا يبعد كثيراً عن سكني فذهبت لأداء الصلاة في هذا الجامع، ولم أكن أعلم أن العلامة مصطفى محمود يخطب خطبة الجمعة ويؤم المصلين وقد استمتعت بتلك الخطبة الأنيقة كأناقة قائلها وبسيطة كبساطته وعميقة كفكره حيث تطرق إلى كافة مناحي الحياة ومناشط الإنسان حلوها ومرها أنسها وتعسها وكان حفظه الله يبسط الأمور ولا يعقدها ويرشد من غير قسوة وينصح من غير استفزاز، ذلكم هو أسلوب هذا العالم الفذ وحاولت بعد الصلاة السلام عليه إلا أنني لم أستطع الوصول إليه من الحشد الذي كان يحيط به ويسأله وهو لا يتذمر من كثرة الأسئلة بل يرد على كل سؤال بشرح واف حتى يقنع السائل بمسألته.

وذات مساء من أماسي الجنادرية كنت جالساً مع الكاتب المصري أنيس منصور والشاعر العراقي يحيى السماوي والشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي وكان الحوار يدور عن كتابنا في المملكة وخاصة الأستاذ الكبير عبدالله جفري الذي قال عنه آنذاك أنيس منصور انه تلميذه فاستشطت غضباً وحمية وقلت له يا أستاذ لا يبلغ بك الغرور مبلغه، ولكن الحق ليس عليك بل على الذي دعاك فقال الأستاذ البياتي رحمه الله إغفر له زلته فهو يعود إلى مصر الذي فيها نور مصطفى محمود، وبعد هذه المقولة تغير الحديث إلى مصطفى محمود العالم النبيل .

والآن دعوني أستمتع بالحديث عن مصطفى محمود الإنسان المؤمن الزاهد في الحياة والمحب لله ولرسوله.

مصطفى محمود يسكن في شقة في المهندسين لا تبعد كثيراً عن مسجده الذي يقع على شارع جامعة الدول العربية والذي يقدر المتر على هذا الشارع بآلاف الجنيهات حيث زهد هذا العالم الجليل في الجنيهات وفضل بيت الله على نفسه وبناه من ماله ولم يأبه بالمكان الذي لو كان غيره لبنى برجاً يطال عنان السماء يسكنه من يسكنه ويعبث فيه من يعبث، ولكنه كان إنسانا مؤمناً يبحث عن رضا الرب فآثر على نفسه المتعة وانثنى لله كي يكون عبداً صالحاً.

أعوذ بالله من الجفاء ومن الجحود ومن النكران.. هذا الإنسان الجليل حسب ما أخبرت به أصبح فاقد الذاكرة وتنكر له الكثير ولم يعد يزوره سوى ابنته أو قلة نادرة حسب ما علمت، فهل هذا يعقل ؟ وأين الإخلاص يا أهل الثقافة ؟! وأين الوفاء لمن كان وفياً لربه ولرسوله ولإيمانه ولمبادئه؟! هل يعقل أن يُنسى مثل مصطفى محمود ؟! هل يعقل أن ننسى ذلك الذي قال (ليس إنسان من لم يتوقف في أثناء عمره الطويل ليسأل نفسه من أين وإلى أين وما الحكاية وماذا بعد الموت ؟! أينتهي كل شيء إلى تراب؟ أيكون عبثاً وهزلا أم أنها قصة سوف تتعدد فصولاتها أكان لنا وجود قبل الميلاد ؟! وماذا كنت قبل أن أولد أو من أنا على التحديد؟! وما حكمة وجودي ؟! وهل أنا وحدي في هذه الغربة الوجودية ؟ أو أن هناك من يراني ويرعاني ويعتني بأمري . (كتاب السر الأعظم). انظروا إلى هذه الأسئلة وحاولوا التمعن فيها! في كيفية الطرح وروح الامتثال والشوق إلى المحال انه مصطفى محمود ذلك الفذ الذي لا يقاوم ولا يقارن. انظروا ابداع مصطفى محمود حين تخيل في روايته رجل تحت الصفر بل توقع ما نحن فيه الآن من انفتاح مع انه اصدر الرواية قبل أكثر من 40 عاماً قبل أن يتحدث احد عن الفضائيات والأطباق الفضائية وقد يتحقق خياله العلمي بانطلاق رحلة صاروخية من القاهرة إلى لندن حتى قبل عام 2067م وهذا ليس بعيداً في ظل التسارع العلمي والالكتروني.

وحين آب من شكوكه اقرأوا ماذا قال:

الشمس تأفل والزهور تذبل

والربيع ينتهي إلى خريف

والصحة تنتهي إلى مرض

والحياة تنتهي إلى موت

والأمبراطوريات تزدهر وتندثر

والقارات يبتلعها المحيط، ولو أنه قال تبتلعها المحيطات لكان ذلك أوقع

والنجوم تنفجر في فضاء الكون وتختفي.

وعالم الظواهر حولنا عالم مخادع يتكون كالأكاذيب ويتحرك إلى زوال وفناء وكأنه رسوم على الماء أو نقش على رمال تذروها الرياح. والله ليس من هذا العالم وانما متعال لا يمكن لله أن يمرض أو يشيخ أو يموت ولا يصح أن نتصوره وهما باطلاً مثل سائر الأشياء فهو متعال على ذلك كله.

العالم باطل

والله حق (الله - الطبعة الخامسة)

تصوروا هذا التحول من الجمود إلى المطلق من اللاشيء إلى كل الأشياء من الباطل إلى الحق كله إنه الإيمان بالإيمان بحقيقته ويقينه. وحين يعود إلى تخصصه يقول: إن الطبيب حينما يكشف على امرأة عارية لا ينظر إليها بقلبه ولكنه ينظر إليها بعقله إنه يقطع صلة الشعور التي تربطه بمريضته ويكتفي بالتفرج وهو لهذا لا يبكي إذا اكتشف أن مريضته عندها سرطان ولا يرقص من الفرح إذا اكتشف أن عندها زكاما إنه حانوتي يضع الميت في كيس دبلان كأنه يضع بضاعة عادية أو إردب قمح. (الأحلام). سانه يصور حال الطبيب مع مرضاه حيث التكرار يقتل الاحساس وهو هنا يصور عدم احساس الطبيب بالحالات التي تمر عليه سوى أنها حالات عملية تمر عليه باستمرار مات من مات وشفي من شفي !

وفي حواره مع صديقه الملحد حينما اتهم الإسلام بالرجعية في موقفه من المرأة من حيث تعدد الزوجات وبقاء المرأة في البيت والحجاب والطلاق في يد الرجل والضرب والهجر في المضاجع وحكاية ما ملكت أيمانكم وحكاية الرجال قوامون على النساء ونصيب الرجل المضاعف في الميراث حيث رد عليه بما يلي (لنبدأ من البداية من قبل الإسلام حيث جاء الإسلام على جاهلية، كما قال وأن البنت التي تولد نصيبها الوأد والدفن في الرمل والرجل يتزوج العشرة والعشرين ويكره جواريه على البغاء ويقبض الثمن فكان ما جاء به الإسلام من إباحة الزواج بأربع تقييداً وليس تعديداً وكان انقاذاً للمرأة من العار والموت والمذلة. ثم عرج إلى المقارنة بين المرأة المسلمة والمرأة الأوروبية التي ليست أسعد حالاً في الانحلال الشائع هناك وتعدد العشيقات الذي أصبح واقع الأمر في أغلب الزيجات وتساءل: أليس أكرم للمرأة أن تكون زوجة ثانية تجب لها كافة حقوق الزوجة واحترامها من أن تكون عشيقة في السر تختلس المتعة من وراء الجدران ؟!

ثم تمعنوا في تفسيره للغز الحياة حين يقول: إن التراب الذي أمكن أن ينتظم على شكل شموس وكواكب ونجوم أمكن أيضا أن ينتظم على شكل مادة حية وخلايا ونبات وحيوان ومخ وأجهزة عصبية من جميع الرتب والأنواع يهدي ذلك العقل الكلي الباطن فيه وبإلهامه ولأنه العقل الكلي فهو ليس عقلك الخاص ولا عقلي الخاص وإنما العقل المفرد المتعالي علينا وعلى كل شيء الملهم لكل مخلوقاته أو قل إذا أردت الدقة: الذات الواحدة العليا المبدعة.

إن العالم الحي له خصائصه التي تختلف بها عن العالم الميت ثم يكتشف أن العالم الميت ينبض أمامنا بنبضه الخاص وإذا بنا نكتشف فيه النظام والحركة والطاقة والانفعال والتطور وإذا بنا أمام عالم حي على طريقته (لغز الحياة).

أي فلسفة هذه وأي فكر وأي علم يعلمنا هذا العالم لكي نتعلم. وبعد هذا هو العالم الجليل الدكتور مصطفى محمود والذي يرى أن الحياة لغزاً والموت كذلك والذي يفقد الذاكرة ويحتاج إلى من ينعشها ولن ينعشها إلا المحبون له بتواجدهم حوله وتذكيره بما نسي ومؤانسته حتى ينسى الألم ألم الفراق وألم الجفوة.

عموماً نستطيع أن نصنف مصطفى محمود بالعالم الشامل فهو إلى جانب تخصصه الطبي يحمل فكره العديد من الأدبيات؛ فهو ألف في الدين، وألف في الفكر والدراسات الاجتماعية، وألف روايات وقصصا وألف مسرحيات وكتب في أدب الرحلات، فأي نبوغ الذي يجمع بين هذه الآداب والعلوم. لا شك أنه من نوادر المبدعين ولكن مصيبة المبدعين في الوطن العربي أنهم لا يكرمون إلا بعد رحيلهم.. هذا إذا ذكروهم أو تبرع محب بالتذكير بهم.

* كاتب سعودي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة