Culture Magazine Monday  09/06/2008 G Issue 251
نصوص
الأثنين 5 ,جمادى الثانية 1429   العدد  251
 
قصة قصيرة
رقصة العزاء
سعيد الأحمد

 

 

أشعر أنني بليد جداً حيال أحزان الآخرين، لا خوفاً من أن تسقط مني دمعة متمردة على مقاييس الفحولة المبكرة، فأنا لا أخاف المجهول، غير أنني لا أجيد ترويض الدموع البرية!

لا أتذكر متى بدأ الجفاف يصيب محجري، وكل ما أعرفه أنهم كانوا مهووسين بإنضاجي قبل الأوان، والرجال لا يبكون: هكذا رددوا على مسمعي، ف صدّقت.. والله!

- أوَليس الكبار لا يأتون سوى بالحق؟

وحدها تعرف أن البكاء سر آخر لترطيب الحياة، وإكسير يحفظ بريق الطفولة أطول وقت ممكن. لم تغب لحظة عن تعبي، ولم تتوقف عن حرث تربة أحزاني لتقلبها عارية لمطر العين، وكأنها تكهنت أن غيابها سيبكيني أعواماً بلا نياح أو مطر. تتسلل إلى غرفتي بكل ليلة يزورني بها أسىً عابر، هكذا كانت تفعل ولم أتم عشر الضرب بعد، ولم تغب بعد العشر يوماً عن جسر سريري إن تلحف بوجع صامت، مسندة رأسي إلى صدرها لتستدرج البكاء. أزم عيني بشدة فأفيق بوسادة خالية من البلل: مجرد حلم هطول طفيف يغادر سريعاً!.

* * *

جميعهم يحترفون مراسم الدفن؛ لا أعرف من أين لهم تلك المعارف، يستحضرون لياقتهم، أعرافهم، كذبهم ونبلهم، ويسنون سيقانهم استعداداً لرقصة عزاء فاخرة، وأنا فاشل حتى في استقبالهم عندما تكون منصة رقصهم القادمة منصوبة على مسرح أعصابي.

أذكر أنهم أتوا جميعاً، ولم يتخلف فرد عن حفل إهالة التراب على جسد أبي، يصعد أولهم لأداء رقصة النبل على منصة فجيعتي ويترجل، تاركاً المنصة لراقص عزاء جديد، لأرقبهم بعين جافة: يهمهمون، يرددون أذكاراً لا أفهمها، يقبلون أصداغي ثم يغربون.

وحدها كانت هناك لاقتسام رغيف الفقد وقلبي، بالقرب من جسر سريري الحزين، وتتزين لهمي، ماسحة جبيني بإصبعها لأغفو.

قالوا لي، عندما ركل شعر ساقي البراءة خلفي وركضت، أنها ماتت قبل أن أخلق، ورغم تأكيد أخي وقسم أمي، غير أنها لا زالت تزورني بكل ليلة حزن، تسحب الغطاء المورد على صدري وتمسح بتجاعيد إصبعها العجوز جبيني، مسندة رأسي إلى صدرها لتحرضني على البكاء!


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة