Culture Magazine Monday  10/03/2008 G Issue 238
فضاءات
الأثنين 2 ,ربيع الاول 1429   العدد  238
 

الليبراليون وعقدة (القطيع)
محمد عبدالله الهويمل

 

 

أن تكون مختلفاً عن السائد لم يعد كافياً لتقود هذا السائد أو تؤسس له خطاب أو أيدولوجية تقدمية تطرح له خيارات إعادة إنتاج ذاكرته أو مراجعة مسلماته إذ بات من السهل الانسحاب من الفئة بوصفها كتلة رقمية واتخاذ موقف إزاء السائد الرقمي، ومنها ينهض الاحتراب الرقمي بين المثقف بوصفه رقماً والمجتمع بوصفه الرقم الأكبر. وهذا يتطلب استدعاء جدلية محمومة تفيد بأنه علينا فض الالتباس ما بين المثقف والإصلاحي ومحدّدات كلّ منهما.

هذا الاحتدام دشّن لحقبة جديدة من التعاطي مع الرقم الشعبي والتعامل معه على أنه رموز حسابية جامدة لا تتفاعل مع المتغير الحضاري كمعادلة رياضية ناضجة بل كقطيع من الأرقام يرتفع ويهبط في البورصة.

المحافظون في أي مجتمع كانوا بمنأى عن هذا التصور تجاه مجتمعاتهم ربما لأنهم يمثلون قاعدتهم الجماهيرية ووصفهم بالقطيع هو مس بمكتسب ثقافي وتغريم للمفهوم المركزي الذي يمثل الخطاب، وتنبري في هذه التجاذبات بادرة المثقف الذي يضفي على نفسه جملة من الأوصاف؛ فهو إصلاحي وليبرالي وتنويري لا لشيء إلاّ لتزاحم مكونات شخصية مرفوضة كتقليدي وشعبي وبعضُ ما يعزز شروط الهوية ذات الصلة بالحضور التلقائي للنسق التراثي وتجليه في سلوك نفسي ونمط أخلاقي.

الليبرالية طموح ثوري للتنصل من السائد واكتساب كينونة غير رقمية، وقد يكون الإلحاح هنا شخصياً أو ذا باعث شخصي لا يتجاوز إطار الذات إلى المحرضات الثقافية والفلسفية ذات العلاقة بالحرية كمفهوم إدراكي وضرورة إنتاج وبالإنسانية كموئل شعوري ينظم بني البشر .

بعض الليبراليين العرب والسعوديين على الأخص هم باحثون عن قضية يناضلون من أجلها تملأ فراغ أجندة انقلابهم الشخصي على ثقافة القطيع والتماس الشفاء من عقدة رقمية يمكن تأطيرها في (أنني أرفض أن أكون رقماً شعبياً). علاجك إذاً أن تكون مثقفاً ليبرالياً أو دينياً تنويرياً لتبقى هذه اللازمة المرضية مرافقاً مخلصاً لكثير من المثقفين الليبراليين السعوديين الذين افتتحوا فصلاً جديداً للبحث عن ما يحررهم من القطيع وإحراجاته، فبحثوا عن المختلف دون فحصٍ لشروط الثقافة الجديدة التحررية وهم ينطوون على تصور أن المختلف لن يكون قطيعياً فالتمسوا أنماط وآفاق ومرجعيات تغذي جانب الشك في ممارساتهم الفكرية إزاء التراث ووجدوا لا أقول ضالتهم بل لُدّتهم في وضعه وإخضاعه للنقد لأنهم تجاوزوا ثقافة القطيع وباتوا آباء للتراث والتاريخ وقد يتم هذا في ليلة وضحاها دون إلمام بأبجديات التراث.

الليبراليون لن يصمدوا في ممارسة الشك لضعف ثقافتهم في إعادة المشكوك فيها بل الشك هو تجلٍ من تجليات فوبيا (عقدة المؤامرة) على التراث وهي من العقد التي يصفون بها القطيع.

الشك هو فرضية فلسفية وعلمية وتجلت عند فرانسيس بيكون وديكارت وغيرهما وتقتضي نفي اليقينيات إزاء تلقي الثقافي ويعتمد الشك على أدوات تنتهي إلى اليقين وهذا الفرض طبع الفلسفة الحديثة. وإقحامي لهذا في حديثي هنا لعقد مقارنة طائشة بين الفلاسفة ومثقفين وكلهم لا يخلو من إشكالية الرقم والقطيع.

من رصدٍ مباشر لحال كثير من الليبراليين السعوديين أنتهي إلى أنهم في رحلة بحثهم عن الشك قد تخففوا من أدوات الشك في الشك أو محاكمة التلقي الجديد بأدوات صارمة كما هو شأنهم مع التراث فاندفعوا زُرافات ووحداناً إلى كُتب أحسبها كُتبت لتسلية العقل أو المحاولة للكتابة، وأخص الكتب المتصادمة من التراث الإسلامي والصادرة تحديداً من دار رياض الريس ككتب إبراهيم فوزي والصادق النيهوم وإبراهيم محمود وزكريا أوزون، وقد اطلعت عليها فوجدتها تمثل عهداً جديداً من تدجين العقل وتنميطه وتجميعه في قطيع رقمي مماثل لأناقة القطيع الشعبي.

بل إن أحد الليبراليين وقد طلب منه أن يدخل في حوار مع أحد المختصين في تدوين السنة ليفنِّد عبثيات إبراهيم فوزي فقابل الطلب بالرفض لعدم وجود أحد قادر على الردّ وهو الذي لم يعرف تدوين السنة إلاّ من الذي شكك في تدوينها.

إن رفض صاحبي الدخول في حوار هو خوفه من العودة رقماً في القطيع الشعبي فانظر كيف يحتمي أحدنا بالشك والشبهة لتحمي نخبويته وتضفي على هالة الثقافة والتفرد.

إن التغريد خارج السرب لا يتطلب حنجرة مموسقة خاصة بل انحراف عن خط السرب وهذا يكفي ... إن الشك الصحي بالتراث والسائد لا يكون دافعه الكراهية والحقد بل التأمل والحيرة وهما أداتان قد لا تتوفر عند الكثير، أمّا الحقد والكراهية فهما خُلقان رقميّان وقد آنسني في هذا المقام دعاء شفاف للمتأمل وليس الحاقد على شريعتي يقول: (اللهم صُن عقيدتي من عقدتي).

-الرياض Hm32@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة