Culture Magazine Monday  10/03/2008 G Issue 238
قراءات
الأثنين 2 ,ربيع الاول 1429   العدد  238
 

سياحة نقديّة في مخمّسة جهنية (1)
رانية الشريف العرضاوي

 

 

إن الكتابة الشعرية مخاطرة يمارسها أكثر المغامرين جرأة في العالم، وعندما تكون هذه الكتابة شعراً على شعر - كما هو التخميس- فسوف تكون الجرأة أضعافاً مضاعفة، والمزالق أكثر وروداً.. لكنها تحمل روحاً مختلفة، روح يسعى صاحبها إلى الديمومة والخلود بما يمارسه من نفث الحياة في نص عبر ضمن قاعدته المعرفية في عالم التناص وانقضى أجله كما يظن الكثيرون. فيكون الشاعر هنا حاملاً همين: هم وليده الجديد، وهم النص الذي سيتحوّل إلى تراثه المقصود بالإحياء.. وهو ما يصعّب الأمر أكثر ويجعل العملية الإبداعية أكثر غموضاً ومشقة فوق ما هي عليه أصلا!! بل لا يبالغ إن قبل أن إقبال الشاعر على التخميس مدفوع بعمق الوصال مع التراث، والحنين الغامر تجاه كل ما هو ماض وكل ما هو تراث أو تاريخ.

والتخميس في الشعر هو أن يأخذ الشاعر بيتاً لسواه فيجعل صدره بعد ثلاثة أشطر ملائمة له في الوزن والقافية أي يجعله عجز بيت ثان، ثم يأتي بعجز ذلك البيت فيحصل على خمسة أشطر، ومن هنا جاءت التسمية بالتخميس. كما في مخمسة صفي الدين الحلي التي أقامها على لامية السموأل التي يقول فيها:

تعيّرنا أنا قليلٌ عديدنا

فقلت لها: إن الكرام قليل

فقال صفي الدين الحلي مخمساً بيته:

وعصبة غدر أرغمتها جدودنا

وباتت ومنها ضدنا وحسودنا

إذا عجزت عن فعل كيد يكيدنا

تعيرنا أنا قليل عديدنا

فقلت لها: إن الكرام قليل

ومن الملاحظ أن الشعر المخمس مؤلف من مقطوعات مؤلفة من خمسة أشطار، الأربعة الأولى منها على قافية واحدة، والخامس له قافية مختلفة هي قافية النص الأول.

والنص الذي بين أيدينا نص اختار مساراً أفقياً في تخميسه لما جعل نصه الماضي في تاريخ الأندلس وعروبتها وأمجادها، مستنفذاً بذلك دفقات شعرية عالية من عمق النفس الأبية التي تجد ظلال إبائها في ماضيها الأصيل العظيم، وهو ما يشير إلى إحساسها بالغبن من حاضرها الحالي، وهو نص للدكتور محمد صبيان الجهني الشاعر والأستاذ المشارك بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، صاحب أنشطة أدبية واجتماعية متنوعة، وله عدد من القصائد المنشورة في الصحف. وأما النص الذي أقام عليه تخميسه فهو قصيدة نزار قباني المشهورة (في مدخل الحمراء كان لقاؤنا) وهي من أرق ما كتب في العصر الحديث عن المجد الأندلسي الإسلامي التليد.

وبالعودة إلى تسمية هذا النوع من الشعر بالتخميس نجد هنالك مبادرة نصية يتحمل فيها النص إلغاء الزمن بيننا وبين منتج النص الأول طال هذا الزمن أم قصر، مع ما يحتدم فيه من إنجازات واكتشافات وتجارب وهو ما يوقع المتلقي في حركة الدوران الخماسية التي يمكن عدها سمة أعانت النص الوليد على الحياة ومحاولة الوصول إلى الكمال عبر أشطره الثلاثة التي تتسارع لتلتصق بالبيت مكونة دائرة (خمسة) فيتولد من هذا الاندماج بعد ذلك نص ثالث هو نتاج النص الأصلي الثنائي الشطر والنص المخرج الثلاثي الشطر فيكون الوليد خماسياً أو مخمساً.

وباقتراب حثيث من مخمسة الجهني تجده بلغته القادمة كفارس من وسط الصحراء العنترية ذات الوجه الأسمر والملامح الأصيلة، أقول تجده يخضع هذه اللغة بلطف أحيانا وباسترحام أحيانا أخرى لتكون أكثر تناسبا مع لغة نزار قباني التي لا يخفى على القارئ عذوبتها وحداثتها، وهنا تكمن البراعة الحقيقية!! فالشاعر يغير وجه النص النزاري من حيث لا يدري ليحوله عن دائرة الغزل والرقة إلى دائرة الفروسية والحب العربي للماضي والتاريخ والحضارة الإسلامية العريقة مع بقاء عذوبة الغزل ورقة الإحساس..

وبذلك سيكون من العدل قراءة النص الثالث المنتج من نص نزار إضافة إلى نص الجهني وبالتالي نحن في مواجهة مع نص نزار إضافة إلى نص الجهني وبالتالي نحن في مواجهة مع نص مولود من عملية دمج دلالي وموسيقى بين النصين وهو ما يكثف المادة الشعرية بين يدي القارئ ومن ثم تكون اللذة أعلى بخلاف من رأى في التخميس الشعري نوعا من التقليد البالي لضعف المعنى!!

وتبدأ المباغتة في النص من الاختيار المكاني عندما اختار محل اللقاء الأول (مدخل الحمراء) الذي هو مكان الحب والصدفة الغزلية، ليحوله إلى مكان التاريخ والجهاد:

هذي الديار بها مشت آباؤنا

وبها تبختر عزنا وإباؤنا

وجرت على تلك السفوح دماؤنا

في مدخل (الحمراء) كان لقاؤنا..

ما أطيب اللقيا بلا ميعاد

فالحمرة قبل التخميس كانت لون الحب والعشق والقلوب الهائمة وبعده تحولت إلى لون الدم والإباء الذي أهريق! وبذلك تم توظيف عدة دلالات لونية في المكان نفسه.

ثم انتقل النص مستجيباً لسلطة الغزل والحب عندما فصل في العيون التي هي قناة التواصل الأولى بين المتحابين ومرآة القلب ونافذته وإن كان في هذا البيت:

عينان لم أر في الورى مثليهما

يخشى من العين الحسود عليهما

عوذتها لما نظرت إليهما

عينان سوداوان.. في حجريهما

تتوالد الأبعاد من أبعاد

قد واكب مسيرة القدماء ولم يأت بجديد، ولكن التسلسل العذب الذي تلاحقت في الأحداث الحوارية بين العيون رفع رتابة الصورة خاصة بحضور اللون الأحمر من جديد، ولكن في دلالة جمالية خافتة (فتضرج الخدان) تبوح في عمقها بهمس تجاه الدم الذي سكب في أول النص، فمن المعروف أن التضرج للدم إذا خضب الجسد وهذه ازدواجية خطيرة، فالدماء التي جرت من الأجداد مازالت تجري في خد المحبوبة. ثم تأمل قوله:

(وذكرت ماضينا فهاجت لوعة) فاللوعة هنا ليست من مشهد الحب الذي بدأ نسيجه في البيت الذي قبله كما هو متوقع بل هي لوعة من حب قديم مضى أكبر، هو حب الوطن الفقيد! فاللوعة لا تكون إلا بطول غياب، وهو ما جعل (الفزع) هنا أمراً وقع من شدة الالتياع إذ لم يصبر عليه.. وهنا يكون النص قد أتى بشيء من الانزياح أو العدول وهو مفاجأة المتلقي بأن يعدل عما كان يتوقعه منه وينزاح إلى ما هو مفاجأة له وهو ما يقود إلى قولك أحيانا كثيرة (عجيب!!!)

وتنتقل المشاهد في النص إلى جو الحرب والفتح الإسلامي فترتفع معه اللغة وتحلق بدلالات عسكرية تستحضرها المخمسة من معرفة تاريخية تسوقها لتدمجها مع اللغة النزارية دمجاً لذيذاً عبر حوار قد خدر المتلقي بوصفه الأنثى التي تتنقل بحديثها مع مرافقها:

نظرت إليَّ بطرفها ونظرتها

فتضرج الخدان إذ لاحظتها

فعلمت أني حينها أحرجتها

هل أنت إسبانية؟.. ساءلتها

قالت: وفي غرناطة ميلادي

فجرت على الخدين مني دمعة

وذكرت ماضينا فهاجت لوعة

في القلب ثم تمالكتني فزعة

غرناطة! وصحت قرون سبعة

في تبنك العينين.. بعد رقاد

وكتائب بكتائب متبوعة

ومدائن بفوارس ممنوعة

وعلى الجهاد خلائق مطبوعة

وأمية.. راياتها مرفوعة

وجيادها موصولة بجياد

(الكتائب - المدائن - الفوارس - الجهاد - الجياد) والرايات المرفوعة التي نكست بعد هذا المشهد الحربي فتحولت إلى ذكرى (معذّبة) بدلاً من أن تكون مفخرة من الماضي الذي ارتبط بالقرون (السبعة) وما للرقم سبعة من عناية خاصة تعطيه الكثرة والامتدادية والتضعيف إمعانا في استحضار الارتباط الزمني الأزلي بين العرب المسلمين والأندلس.

وحتى تتلخص الذات من العذاب تتحول بدفة النص إلى المغامرة الغزلية من جديد وكأنها تهرب من العذاب الحقيقي إلى اللذة المتوهمة التي تحياها في شيخوخة تنبش صورة الشباب، فتغدو الشيخوخة معادلة للهزيمة والشباب المعادل للعزة، ولا يخفى ما في الأمر من تطابق كبير، فالشيب قلق المهزوم لاقترابه من الموت والحب وسيلة النصر في الحياة لهزم الموت باستمرار الحياة وحتى وإن فارقها. وتنطلق الأبيات في سماء الغزل لتعب من قريحة بدت عروبتها وتراثيتها، متمثلاً الرموز الجمالية في الطبيعة ومودعاً نصه شيئاً من الوطنية المفقودة:

أواه من ذكرى خيال عادني

بعد المشيب وما سلوت وزادني

ولها بحب وقرب هذا الشادن

ما أغرب التاريخ.. كيف أعادني

لحفيدة سمراء.. من أحفادي

قمر يريك من الجمال جلاله

لو قمت تستجدي الخلود حياله

ما نلت منه حرامه وحلاله

وجه دمشقي.. رأيت خلاله

أجفان بلقيس.. وجيد سعاد

وهنا يصل النص إلى عودة أقوى حيث المغامرة الغزلية وعلاقة الأنثى بالوطن والمدينة وهو ما سيكون معنا في الأسبوع المقبل إن شاء الله.

تحياتي لكم وللجمال..

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة