Culture Magazine Monday  14/01/2008 G Issue 229
سرد
الأثنين 6 ,محرم 1429   العدد  229
 
قصة قصيرة
صديقي .. وداعاً
عبدالرحمن بن سلطان السلطان

 

 

يسيران بهدوء بالغ ومقيت.. أمام شاطئ بحر يشكو من سأم متواصل.. لا أمواج ولا رياح.. صمت متوتر وقلق يمهد لعاصفة قادمة بلا ريب.. يقف أحدهما، يرفع إحدى رجليه ليضعها على صخرة ملساء، لا يلتفت إلى صاحبه لكنه يطلق سهماً جارحاً نحوه:

لماذا لم تحضر يوم أمس؟

- ................

- قلت ستتأخر.. لكنك لم تحضر.

- قلت لك لم استطع.

يوجه نظره نحو السماء التي بدأت تتشح بقماش واسع من شفق أحمر، أما قرص الشمس فبدا يستحث الخطى نحو الهرب من السواد القادم.

- مشاعرك تغيرت.

- بل أنت من تغير.

رائحة من شك قذر تتسربل بين ثنايا هذا الحوار المتكلف، كلاهما مشدود نحو الهاوية.. كلاهما يحاول استراق اللحظ نحو صاحبه.. كلاهما يرمح ببصيرته نحو الجحيم!!

يتأمل سامي منظر الباعة المتجولين.. يحاول أن يضحك على تلك الطفلة السمراء التي وقعت على ظهرها، ولكنه لا يستطيع.. لا بد أن يبقى متجهماً.. مبدياً روح التحدي والشموخ.

عماد الذي صهده حر الغروب يتذكر بكثير من الحزن ومضات من تلك الأيام الخوالي.. الليلة.. قبل أن تختفي الشمس وراء أسوار الليل البهيم.. لا بد من مشاهدة واقعة الغروب سوياً.. فقط للذكرى.. وفصد دم الشك المتواري وليكن ما يكون!!

كاسرة الأمواج البعيدة تستقبل أول موجة عالية بعد غياب طويل.. لكنها لم تحرك ساكناً هنا.. يحاول إلقاء قنبلة حارقة أمام عماد..

- أنت تخلط الأمور.

- أرجوك سامي.. هذا موضوع وذاك آخر.

: لا.. أنت من ربطهما.

يمز عماد بشفته، يهم بفتح باب فمه أمام كلمة ثائرة دامية.. مدببة الأطراف.. حادة الزوايا، ولكنه يطبق عليها في اللحظة الأخيرة، ويكتفى بإطلاق زفرة حارة لاهبة.

- لماذا لا تتكلم؟

يردف سامي ويضيف

- لماذا الصمت الآن.. نحن لم نرفضك.

- ...... هذه هي المصيبة.

-لم نقل (لا)... إنها مسألة وقت.

- رفض دبلوماسي.

- من قال هذا الكلام؟

- أنا.

- أنت مخطئ؟

- كفاك هراء.. لم تقم بشيء يذكر.

إحساس بالأسف يتفجر داخل أعماقه.. يحس بحاجة ملحة إلى تحطيم رفيقه، ودفنه إلى ما قبل أمس، يتمنى لو تحول إلى آلة زمن مجازية حمقاء.. وقام بإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل يوم أمس، حينها سيدوس على فكرته تلك، ويقطع لسانه الذي أفصح عنها.. لقد أحب عماد سامياً كثيراً، والعكس كان صحيحاً أيضاً.. قدم له الكثير والكثير ولم يطمح إلى شيء ما.. قدم عدداً من التضحيات.. قدم له الحب الحقيقي.. جعله يدرك معنى الصداقة الكاملة.. ولكنه حين طلب منه القربى.. لم يتوقع المماطلة والتسويف!!

هما من طبقة اجتماعية واحدة ومستوى مادي متماثل، والأكثر من ذلك يحملان نفس الشهادة الجامعية ويحصلان على دخل مادي متساو.. تفكيرهما متطابق، نظرتهما للحياة متوافقة.. أصدقاؤهما على نفس الشاكلة.. ما المشكلة إذن؟

جملة قليلة الكلمات بدأت بالعبث بخلايا عقل عماد وقلبه: (هل أنا لا استحق أخته أم ماذا؟) إذا كنت أعاني من علة ما فلماذا لم يصارحني؟.. إذا كنت ناقصاً في جانب ما فلم لم يجرب إكمالي؟ إذا كنت على خطأ ما فلماذا لم يصححه لي؟ فالناس تعرف بأخلائهم.. أم أنه يريد الاستئثار بي وحدي؟

يقذف عماد بنظره المحموم إلى غير هدى معلوم، محاولاً تجاوز سامي والمكان.. لم يكن يعلم بأن دموعه ستخونه عما قليل.. اغرورقت عينه وترقرقت.. يلتفت نحوه والدمعة تسقط بحرقة خده الباكي.

: لقد جرحتني.. سامي.

اللحظات تمر ببطء شديد، والحزن يحفر قبراً في أعماق صداقة تحتضر، صداقة ظلت في يوميها الأخيرين تهذي وترهف بما لا تعقل!! لو أن سكيناً حادة اخترقت شغاف قلب سامي لما اصابت مقتله مثلما فعلت تلك الدمعة الوحيدة من صديق عمره عماد.. الذي لم يحب أحدا غيره.. عماد الأخ والصديق.. عماد توأم الروح!

آه من هذا البحر الساذج والسمح.. يقذف بموج أخرق، ينثره دون تخطيط، مسبق أو حتى مجرد تعليل.. أهي قطرات الماء المالح من يغسل أحزاننا؟ أم انها تزيد الجرح حرارة ولهيباً!!

: لا.

يلتفت نحو عماد وقد صارت الدمعة دمعتين.. القلب تقطعت أوصاله والصدر ضاقت ضلوعه.. لماذا يا ربي كل هذا الشقاء؟

: أنت مستعجل دائماً.. تريد الأمور كما تريد.

: ......

: لماذا لا ترد؟.... القهر يلتهمني.

يلتفت نحوه للمرة الأخيرة ثم يمرق كالسهم نحو سيارته القريبة.. يلحقه سامي.. يركب سيارته ويشغل محركها.. سامي يرقبه على بعد متر واحد فقط.. يحرك سيارته.. فجأة يتوقف.. يرخي بزجاج النافذة وكصوت المد والجزر يتكلم بصوت متهدج ومتقطع.

: س... سامي.

:.......

: شكراً على تلك الأيام الماضية.. والجميلة.. لن أنساها ما حييت؟

:.... ماذا تقول؟

:.... ص... صديقي.. وداعاً.

يرمقه سامي بعين دامعة وفوائد فجيع، تطوقه تلك الكلمات القاتلة.. يقلب نظره في ما حوله باحثاً عن شجرة أو عمود يستند عليه، لكنه يحس برغبة عميقة بالبكاء.

الرياض asalsultan@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة