Culture Magazine Monday  14/04/2008 G Issue 243
عدد خاص
الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1429   العدد  243
 

تجربة نقدية نادرة
د.أحمد مقبل محمدالمنصوري*

 

 

تتطلب الكتابة النقدية عن ناقدٍ كبير بحجم الشاعر والناقد والأكاديمي د.عبد العزيز المقالح قدراً من الدقة، وقدراً من التركيز لا سيما إذا كان العطاء النقدي للمقالح قد قطع حقبة زمنية طويلة تصل حدّ الأربعين عاماً لم يعرف خلالها قلمه النقدي التوقف أو الانقطاع!

وما من قضية تستجد في النقد الحديث أو المعاصر أو تثير جدلاً سواء في وطنه المحلي اليمن، أو وطنه العربي الكبير إلاّ و له في الحديث عنها ومناقشة أصحابها نصيب كبير، زد على ذلك أن المقالح ليس فقط رائد التحديث الشعري وفاتح باب الحداثة الشعرية في اليمن ولكنه، أيضاً رائد التحديث النقدي وفاتح باب الحداثة النقدية في اليمن فهو من المبدعين القلائل الذين يجمعون في الوقت ذاته بين موهبتين: موهبة الشعر وموهبة النقد ومن العجيب أنه يسير فيهما معاً: الشعر والنقد بخطى متوازنة وباقتدار فريد لكأن ذات المقالح المبدعة تتبادل المواقع فمرة تبرز في الشعر وأخرى في النقد وبالقدر نفسه من التألق والتوازن، وكما هو عظيم في شعره هو أيضاً عظيم في نقده، ولقد يفاجأ الدارس حين يطلع على سلسلة دواوينه الشعرية لأنه سيجد خلفها سلسلة أخرى تضم أعماله النقدية، وأعتقد أن الإلمام بموهبتين والإيفاء بمتطلباتهما في وقت واحد أمر صعب ونادر ولا يتأتى إلا لمن رزق قلباً وعقلاً كبيرين وواسعين يتسعان لآفاق الشاعرية، ومديات النقد وذلكم هو قلب المقالح وعقله ! لن أستطيع هنا -بل ذلك محال- أن أمضي مع الموهبتين معاً: الشعر والنقد فذلك أمر يطول بل هو عسير وشديد الصعوبة!

ولكنني سأكتفي بالمضي مع ملامح سريعة ونبذ مختصرة من سيرته النقدية، وأحسب أيضاً أن الحديث عن تجربة المقالح النقدية هو أيضاً عسير وليس بمقدور دارس ما أيا كان موقعه أن يلم بمجمل آرائه النقدية ليس لكثرتها وحسب، ولكن أيضاً لتشتتها هنا وهناك وفي أكثر من زاوية؛ ذلك أن المقالح لا يكتفي بأن ينشر آراءه النقدية في كتب مختصة بالنقد وقضاياه، وإنما ينشرها أيضاً في مقالات صحفية يومية وأسبوعية محلية وخارجية وفي مجلات محكمة محلية وخارجية، ثم هو أيضاً كثيراً ما يطرح آراء نقدية مهمة في المقدمات التي يكتبها لدواوين الشباب والأصدقاء أو لمؤلفاتهم أو قصصهم ومسرحياتهم ورواياتهم وهي كثيرة ومتنوعة ومتعددة، كما ينشرها أيضاً في لقاءاته الأسبوعية في مجلسه الأدبي في منزله حيث يلتقي أسبوعياً بأبرز النقاد والعرب واليمنيين وكذا المثقفين يعالجون قضايا كثيرة في الأدب شعره ونثره ونقده ويطرحون كثيراً من الآراء.

والجانب الآخر أن المادة النقدية عند المقالح موزعة بين الجهد التنظيري والجهد التطبيقي، وموزعة أيضاً بين أدب الأطفال والكبار، وبين الأدب العامي والفصيح، وبين القصيدة اليمنية المحلية والقصيدة العربية الخارجية، وبين القصيدة اليمنية المحلية والقصيدة العربية الخارجية، وبين الأدب القديم والحديث، وبين مختلف الأجناس الأدبية: الشعر والقصة والقصة القصيرة والرواية والمسرح، وهذا يكشف لنا مرة أخرى مدى العجز عن الإلمام بالمعطى النقدي الواسع والثري للمقالح من لدن باحث أكاديمي يسخر جهده لهذه الجهود، ناهيك عن مقالة متواضعة كهذه أعدت لصحيفة تتطلب هي أيضاً السرعة والاجتزاء قدر المستطاع!

لقد بدأ المقالح رحلته النقدية بالتنظير المستند إلى التطبيق في دارسة هي فريدة من نوعها خصصها ل(الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن) ليؤسس بهذا الكتاب دستوراً نقدياً مهماً للحركة الشعرية المعاصرة في موطنه اليمن برمتها أصبح الملاذ والمرجع لكل دارس أكاديمي أو غير أكاديمي يتناول بالدرس الشعر اليمني المعاصر أو قضية من قضاياه، وهو الكتاب الذي نال به درجة أكاديمية (الماجستير) ثم تناول في درجته للدكتواره دراسة نقدية مهمة تناولت بالتنظير والتطبيق أيضاً (شعر العامية في اليمن) وهو بهذا يكون قد آمن منذ بداية رحلته النقدية وحتى الآن أن جماليات الشعر العامي لا تقل سحراً و إمتاعا عن الأدب الفصيح بل إنه يصرح وفي أكثر من موضع بمثل قوله: (وأشهد أنني انفعلت كثيرا لنماذج كثيرة من شعرنا الشعبي في اليمن ولم انفعل إلا قليلاً جداً مع نماذج قليلة من شعرنا الفصيح ) شعر العامية في اليمن ص 101.

والحق -وهذا استطراد بسيط- أن المتتبع للشعر الحميني في اليمن المغنى وغير المغنى ليشعر شعور اليقين أن ما فيه من الرقة والعذوبة وصدق المعاناة وجماليات التصوير والموسيقى ما يجعله يفوق الفصحى بأشواط لا شوط واحد في الشاعرية و الايفاء بمتطلباتها دونما تكلف أو تصنع.

بهاتين الدراستين يكون المقالح قد وضع الحجر الأساس لتوجهه النقدي بأفراده هاتين الدارستين النقديتين الأولى للفصيح والأخرى للعامي وبرؤية تشي بالتوازن والمصداقية، فالأدب أدب سواء كتب بلغة فصيحة أو عامية وكان لهذه البداية أثرها فيما سيأتي من اهتمامات نقدية للمقالح فيما بعد.

لقد توالت الدراسات النقدية عند المقالح ومازالت تتوالى حتى هذه اللحظة وبإمكاننا هنا أن نقف فقط أمام الكتب النقدية المؤلفة بل أشهرها منذ السبعينيات وحتى الآن، وليس بمقدورنا -هنا في الأقل- تتبع أبحاثه ومقالاته ولقاءاته ومقدماته؛ فذلك أمر يطول بل عسير جداً في مثل موقف عجل كهذا!

من تلك الكتب بعد الكتابين السابقين: الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعرية المعاصر في اليمن، وشعر العامية في اليمن نرصد (مع ملحوظة أن الرصد لا علاقة له بالزمن) الآتي:

- قراءة في أدب اليمن المعاصر.

- يوميات يمانية في الأدب والفن.

- قراءات في الأدب والفن.

- الشعر بين الرؤيا والتشكيل.

- أصوات من الزمن الجديد (دراسات في الأدب العربي العاصر)

- من البيت إلى القصيدة: دارسة في الشعر اليمن الجديد.

- ثرثرات في شتاء الأدب العربي.

- الزبيري ضمير اليمن الوطني والثقافي.

- شعراء من اليمن.

- عمالقة عند مطلع القرن.

- البدايات الجنوبية (قراءة في كتابات الشعراء اليمنيين الشابة)

- أوليات النقد الأدبي في اليمن.

- أزمة القصيدة العربية- مشروع تساؤل.

- من أغوار الخفاء إلى مشارف التجلى.

- صدمة الحجارة (دارسة في القصيد الانتفاضية).

- أوليات المسرح في اليمن.

- عللي أحمد باكثير رائد التحديث في الشعر العربي المعاصر.

- دارسات في الرواية والقصة القصيرة في اليمن.

- ثلاثيات نقدية.

- الوجه الضائع (دارسات عن الأدب والطفل العربي).

- تلاقي الأطراف (قراءة أولى في نماذج من أدب المغرب الكبير : المغرب، الجزائر، تونس) - زيد الموشكي شاعراً وشهيداً........الخ.

إن نظرة سريعة إلى هذه الكتب التي أنتجها المقالح -والرصد لها بالطبع ليس وافياً، فهناك كتب أخرى غير هذه- لتكشف بجلاء حقيقة ما بدأناه في مقالتنا هذه عن عطاء نقدي ثري ومتنوع وواسع سطره ومازال يسطره المقالح ؛ فمن حيث الزمن سنجد هذه الكتب النقدية قد شملت الشعراء القدماء (كوضاح اليمن مثلاًً) وشملت المحدثين كعمالقة القرن الماضي وشملت المعاصرين كصلاح عبد الصبور، ونزار، وباكثير، وادونيس، والماغوط، ونجيب محفوظ، و البردوني وسواهم كثير.

ومن حيث المكان: نجدها شملت شعراء اليمن وتجاربهم وشعراء الوطن العربي عموماً كمصر والعراق وسوريا والجزائر والمغرب وتونس وفلسطين.....إلخ وتكتمل الخريطة مع عرضه الدائم في الملحق الثقافي الأسبوعي في صحيفة الثورة اليمنية لكثير من مواهب الوطن العربي الكبير وشعرائه الشباب.

ومن حيث الأجناس الأدبية: نجدها تتناول الشعر وهو أهمها والمسرح والرواية والقصة والقصةالقصيرة.

ومن حيث الأشكال الشعرية: نجدها تتناول القصيدة البيتية و الجديدة والأجد (النثر).

واهتمت أيضاً بالأدبين العامي والفصيح، وأفردت الاهتمام بأدب الأطفال كما اهتمت بأدب الشباب وأدب الكبار.

ولم يقف اهتمامه النقدي عند حدود التنظير أو التطبيق وإنما شملهما معاً فمرة ينظر لقضايا النقد ومشكلاته العويصة، ويقف عند المثير منها للجدل ويضع رأيه المنطقي الشجاع ، وبكل اقتناع نلمس بريشته النقدية الواعية أبرز القضايا الشائكة منها مثلا : قضية التعصب للشعر القديم أو للحديث، العمودي أو الجديد التي رأى فيها - منهياً الخلاف بين الفريقين- أن العبرة في الشعر هي في الجودة الفنية، وبالمضامين المتقدمة لا بالشكل فما كان جيداً فهو جيد سواء كان قديماً أو حديثاً مكتوباً بهذا الشكل أوذاك... (ثرثرات في شتاء الأدب العربي ص20).

ثم هو في مجمل كتبه النقدية لم يجد غضاضة في نقد الشعر العمودي والارتياح لجمالياته، ومواطن السحر فيه وبالكيفية التي ارتاح فيها لنماذج من الشعر الجديد أو الأجد وهي حقيقة تكشفها كتبه وأبحاثه ومقالاته. وهو رأي متوازن منطقي ينم عن أدارك واع بأسرار الشاعرية التي يمكن لها أن تتلبس الشكل الذي تريد دون ربطها أو قصرها بشكل واحد.

وفي حديثه عن الأدب بين المتعة والفائدة يرى بروح الناقد المتوازن أن الشعر العظيم يحوي وراء جمالياته وفنه الهدف العظيم مشيراً إلى الجمع بين المتعة والفائدة معاً.

وليس هناك في نظره ما يسمى بالفن للفن (قراءة في أدب اليمن المعاصر ص 134) فالشعر للحياة ومن أجلها وهو توازن بين شكل و مضمون لا ينبغي أن يطغى جانب على آخر وإلا اختل الفن، وفي حديثه عن قضية الغموض والوضوح في الأدب يسلك أيضاً المنطق الأسلم المتوازن فهو مع الشعر الذي يحمل غموضاً شفافاً يجعل المتلقي حين يفك شفراته يشعر بلذة الفن العميقة، وليس مع الشعر الذي يصل حد الإبهام والتلغيز، ثم هو أيضاً ليس مع الشعر التقريري الواضح بل إن الإبهام هو الذي أفرز معضلة الفجوة بين المتلقين والنص الأدبي...

(ينظر قراءة في أدب اليمن ص 64) ويوفق أيضاً بين التراث والمعاصرة والنظرة إليهما، وله في هذا السياق مقالة شهيرة أصبحت -لأهميتها- من المقررات الدراسية في جامعاتنا وفيها يضحك وبقهقة عالية على أولئك الذين يتنكرون للتراث وهم الذين برزوا من رحمه مؤكداً أن المعاصرة وليدة التراث واتماماً لها وليست منقطعة عنها بحال من الأحوال!.

ويقف أمام قصيدة النثر مسمياً إياها بالقصيدة الأجد، وإن يكن قد أبدى تحفظه إزاءها فذلك ليس رفضاً لها بقدر ما هو إيمان منه بأن شروطها (أصعب من أن يستجيب لها شاعر يكتب بالنثر شعرا حقيقيا إلا إذا كان يمتلك طاقة شعرية مستقلة تجعله يستغني عن كل شكل وقاعدة بما سوف يوفره من خصائص شعرية، وعناصر تعبيرية...) قراءة في أدب اليمن المعاصر 22، 23، 33، 63 وقرأ هنا الموقف النقدي في الموقف الشعري، فالمقالح متحفظ على الكتابة بهذا النوع من الشعر للإيمان بصعوبة الإيفاء بشروطه، ولكنه مع ذلك وقف ويقف أمام المحاولات العربية واليمنية لكتابتها وينقدها كما ينقد القصيدة الجديدة أو العمودية، ويطرب كثيرا لبعض من أنموذجاتها ويرفض بعضها الآخر.. كما أنه لا يكاد يترك قضية من القضايا إلا ويفسح لها مجالا في كتبه ومقالاته ولا يتسع المجال للمضي معها كاملة من مثل: المبدع والحرية (تلاقي الأطراف 31، وأزمة القصيدة 198) والأدب والحياة، والغموض والتوصيل (قراءة 64) والقصيدة والعصر، واللغة والتجدد والتغير، والتجريب، ومذاهب الأدب، والتجديد، والتشكيل الزماني والمكاني والموسيقي.

وينظر أيضا للنقد وبداياته في اليمن ، والتحديث الشعري وريادته، وأولويات المسرح في اليمن وشروطه وكذلك القصة والرواية.. الخ ومرة ثانية يمضي من التنظير إلى التطبيق فيقف وجها لوجه أمام الأعمال الأدبية: الشعر، القصة، المسرحية، الرواية.. الخ.. محتكما إلى النص نفسه في اختيار الطريق الموصل إليه، ولا يهمل ما وراء النص؛ فالمقالح لا يؤمن بكفاية منهج معين في قراءة النص، ولا يؤمن بأن نفرض على النص منهجا مسبقا، ولذلك تأتي قراءاته النقدية مفيدة من كل ما يمكن أن ينير النص من الداخل ومن الخارج.

وكما أنه يؤمن بأن الشعر ينبغي أن يجمع بين المتعة والفائدة هو أيضا يجعل النقد ذا هدف في تنمية الوعي الإنساني والقومي والوطني، ويكشف عن القيم وجوانب الأصالة، لذلك نجد أن القضايا القومية والوطنية والإنسانية تلمح في مشروعه النقدي فتبدو شخصية الناقد ممتزجة برجل الأخلاق والقيم والسياسة والانتماء.

ومثلما هو باذخ التواضع حضاري التعامل هادئ متوازن في شخصه، هو كذلك في أطروحاته النقدية التي تسير على النهج نفسه من التوازن والهدوء وعدم الشطح أو الضجيج، ونقده بالجملة نقد منطقي وواع لا توهيم فيه ولاتعميم ولا طلاسم، وأسلوبه لا لبس فيه ولا تعقيد أو مبالغة.

وأخيراً هو عظيم في تواضعه عظيم في شعره وعظيم في نقده.

إنه ناقد بلا ضفاف، تختفي خلف شخصيته المتواضعة الهادئة شخصية شديدة الحساسية للأشياء وهنا تبرز شخصيته الشاعرة، وشخصية شديدة الالتقاط وتقدير الأشياء وهنا تبرز الشخصية الناقدة، ومن النادر أن تلتقي شخصيتان في ذات واحدة كما هي في ذات المقالح.

*قسم اللغة العربية-كلية اللغات -جامعة صنعاء


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة